تثير التعديلات على نظام اللامركزية، والتي دفع بها الرئيس السوداني عمر البشير إلى البرلمان، جدلاً كبيراً في الأوساط السودانيّة، التي تباينت مواقفها بين مؤيد ورافض للخطوة. وتأتي التعديلات الجديدة لتعيد إحكام قبضة الرئيس على الولايات، وتمنحه الحقّ في تعيين حكام الولايات، بعد أن منح الدستور الحالي الولايات سلطات واسعة في إدارة مناطقها واختيار رؤساء حكوماتها بالانتخاب.
ويضم السودان 18 ولاية تحكم بواسطة ولاة (حكام)، ينتمون إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم. كما تنوّعت أنظمة الحكم في السودان، التي أعقبت استقلال البلاد، بين حكم مركزي ولا مركزي وآخر مختلط، فشلت معه كافة النخب التي حكمت البلاد في التوصّل إلى صيغة حكم مستقرّة.
وتأتي التعديلات الدستوريّة الجديدة، التي يُنتظر أن يصادق عليها البرلمان السوداني مطلع الشهر المقبل، على خلفيّة احتدام الصراعات داخل الحزب الحاكم، بشأن تحديد مرشّحيه لانتخابات حكام الولايات، المقرّرة بالتزامن مع انتخابات رئيس الجمهورية، في الثاني من أبريل/نيسان المقبل. وبدت العصبيّة والقبليّة، بشكل سافر، خلال المؤتمرات التي عُقدت لاختيار خمسة مرشحين من كل ولاية، لتُدفع إلى قيادة الحزب، ليختار منهم مرشّحهم، الأمر الذي هدّد تماسك الحزب الحاكم نفسه، ودفعه للتفكير في إيجاد معالجة فوريّة قبل الانتخابات.
وأقرّ حزب المؤتمر الوطني، بأنّ القبليّة كانت خلف قراره بمراجعة نظام اللامركزيّة المطبّق حالياً، والذي يحدّ من سلطات رئيس الجمهورية والمركز فيما يتّصل بالولايات، ويمنح الولايات حريّات واسعة في اختيار من يحكمها وكيفيّة إدارة مناطقها بدستور منفصل، يتسق مع الدستور القومي.
وشكل البرلمان السوداني لجنة طارئة، أسند رئاستها إلى نائب رئيس الجمهورية السابق علي عثمان طه، للنظر في التعديلات وطرحها للمجلس للمصادقة عليها. وتقول عضو اللجنة الطارئة، والقياديّة في الحزب الحاكم بدرية سليمان، في ندوة عقدها اتحاد المحامين بشأن التعديلات، يوم الأحد الماضي، إنّ تطبيق النظام اللامركزي وما نتج عن الانتخابات الأخيرة من إفرازات سلبية، كادت أن تمزّق البلاد وتؤثر على التماسك الداخلي بسبب تفشّي القبليّة والجهويّة، قاد إلى التفكير في تلك التعديلات. وتذكّر بأنّه لم يكن من سلطات البشير، طيلة الفترة الماضية، إلا استدعاء وتنبيه حكام الولايات فيما يتصل بقضايا مناطقهم، من دون أن يكون له الحق في إقالة الوالي عند ارتكابه أخطاء، باعتباره منتخباً من قبل الشعب.
وتشير سليمان إلى أنّ "النزاعات القبليّة التي كانت قديمة في الاستعمار، تظهر الآن وتحكم الساحة وتسهم في قتل الناس بأعداد أكبر، مقارنة بالقتل جراء الحرب ضدّ التمرد"، معتبرة أنّه "من شأن التعديلات إزاحة شبح تفتيت الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي، الذي يهدّد البلاد بسبب القبلية". وتضيف: "نحن مقبلون على انتخابات، ونخشى ما نخشاه من أن يتكرّر ما جرى في انتخابات 2010، لأنه لا توجد علاقة مباشرة بين الرئيس والولاة".
وفي الإطار ذاته، تطمئن سليمان القوى الموافقة على دعوة الرئيس البشير للحوار الوطني، إلى أنّ "التعديلات مؤقتة"، لافتة إلى أنّ "حزبها على استعداد لمراجعتها (التعديلات)، متى توصل المتحاورون إلى توافق سياسي".
وتعيد التعديلات إلى ذاكرة السودانيين، مفاصلة الإسلاميين الشهيرة بين مهندس انقلاب الإنقاذ حسن الترابي والبشير، والتي ابتعد الترابي على أساسها عن السلطة وأنشأ حزباً معارضاً، في نهاية التسعينيات. وكان من بين الأسباب التي أدّت إلى إقصائه، وكان حينها رئيساً للبرلمان، تأييده منح الولايات مزيداً من الحريات في اختيار حكامها.
ولم يتأخر الترابي، قبل يومين، في تأكيد رفضه لتعديلات البشير، التي اعتبرها "لا تستقيم مع العقل". وقال في الندوة ذاتها: "العقل الراشد نفسه لا يمكن أن يستوعب أن نقول لأهل ولاية أنتم بعصبيّتكم وجهويتكم وضيق أفقكم، لستم أهلاً أن تختاروا منكم الأوفق، ليكون الوالي الأكبر، ولكنّكم تستطيعون أن تنتخبوا رئيس الجمهورية". ويضيف: "بهذا المنطق ينبغي على الرئيس أن يعيّن ولي عهد"، مفنّداً الادعاءات التي استند عليها الرئيس البشير لإجرائها.
ويقترح الترابي على الحزب الحاكم "إيجاد نهج بعيداً عن التعديلات، من خلال خلط المرشحين لمناصب الحكام، أي أن يتمّ توزيعهم على مناطق بخلاف ولاياتهم، لضمان معالجة القوميّة والقبليّة في الوقت ذاته"، مشدداً على أن "طرح تعديلات مماثلة سيُفسد الحوار ويجعل من ارتضوا بالحوار والمشككين فيه والمترددين، ينظرون للخطوة على أنّها محاولة للقبض على السلطة والتجبّر".
ويؤكد الترابي أنّ بريطانيا، التي استعمرت البلاد سابقاً، أورثته نظاماً مركزياً، عانت منه نفسها، قاطعا "بفشل كافة الدساتير التي أُقرت في البلاد في الحقب المختلفة".
وفي سياق متّصل، يدحض القيادي في "الحزب الاتحادي الأصل"، علي أحمد السيد، الدفوعات التي ساقها المؤتمر الوطني لتبرير التعديلات الدستورية. ويقول في الندوة ذاتها: "واضح أنّ الحكومة اقتنعت بأنّ هناك صراعاً حول من هو الوالي "الحاكم" بجانب الحكم اللامركزي، ورأت أنّ الحريّة التي منحتها للولايات في اختيار حكّامها باتت تمثّل خطراً عليها، فقررت أن تحدّ منها". ويعتبر ذلك "طبيعياً بسبب أن الحزب الحاكم أًصبح ينافس نفسه بعد نجاحه في تفتيت الأحزاب السياسيّة وتعطيلها"، مشدداً على أنّ "القبليّة والعصبيّة تجذّرت مع انقلاب الإنقاذ، وهي نتاج طبيعي لحكم الحزب".