السودان.. انتفاضة بلا غيلان

26 ديسمبر 2018
+ الخط -
أهو خيط ضوءٍ يبشر بإمكانية تبديد حلكة الليل هذا الشعاع القادم أخيراً من السودان، أم تُراه شرر صاعقةٍ تنذر بحتمية خراب بيوت الآمنين، يتساءل الكثيرون منذ أيام، لا تشكيكاً في مقاصد هؤلاء الذين يُشهرون الآن حناجرهم ضد سارقي خبزهم، بل خوفاً عليهم من أن يلقوا مصير أولئك الذين تمرّدوا، من قبل، بطريقةٍ مماثلة، على حراس قيودهم، في بلدانٍ شقيقة، تتصدر سورية قائمة أكثرها دماراً، وتضم كلاً من اليمن وليبيا على الأقل.
إنها المؤامرة، يجيب نظام حكم الرئيس عمر البشير، من دون أن يرفّ له جفن، ويكرّر إشارات إلى إسرائيل، لا تبدو قابلةً للتصديق، بقدر ما تعيد إلى الأذهان كلاماً مشابهاً ردّدته، منذ نحو ثماني سنين، أنظمة حكم نظرائه، بشار الأسد، وعلي صالح، ومعمر القذافي، تمهيداً لاستخدامهم ما يملكون من أدوات الموت الزؤام، في إخماد حراك المتآمرين على أمن أوطانٍ استقرت، أو استكانت، عقودا، تحت حكمهم الرشيد.
وإنْ أنت بحثت عن أجوبة المكتوين بخبرة دفع الثمن، دماً ودماراً وتشرّداً، فربما تجد على مواقع الإعلام الاجتماعي بعض السوريين ينصح المتظاهرين السودانيين بالعودة فوراً إلى بيوتهم، لأن ما يسمى "العالم الحر" لن يلتفت إليهم غداً، حين تنهال عليهم براميل المتفجرات، أو حين تخطف أمواج المحيطات أطفالهم في رحلة الهروب بحثاً عن وطنٍ آخر بديلٍ من وطن غاز السارين. وقد تجد كذلك بعض اليمنيين يحذر من تدخل دولٍ خليجيةٍ لإجهاض حلم التغيير، عبر تقديم مبادرةٍ تطيح الرئيس، وتحمي نظام حكمه، إيذاناً بإدخال البلاد وأهلها في دوامة مأساةٍ إنسانية لا يعلم منتهاها إلا الله، كما قد تجد أيضاً بعض الليبيين، أو المصريين، يتنبأ بظهور جنرالٍ قادرٍ على إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، حتى في حال بلوغ الشعب لحظة الظن بأنه نال ما يريد.
لكن مثل هذه الآراء التي تنطوي، في الغالب، على سخريةٍ مرّةٍ من عجز الثورات العربية عن إنجاز التغيير الديمقراطي، تعكس، في الوقت نفسه، وإنْ من غير قصد، اكتشاف الناس هوية الثورات المضادة، ووعيهم أهدافها وأدواتها وأساليبها، بعدما كانوا قد انجرفوا في لحظةٍ تاريخيةٍ غير بعيدةٍ إلى الوهم بأن الغولة هي أمهم. فما من سوري هتف، قبل سنين، مطالباً بالتدخل الدولي، إلا ورأى بأم عينه، إن بقي على قيد الحياة، كيف احتشدت جيوش العالم على أرض سورية، بحجة محاربة الإرهاب، من دون أن يمدّ أحدُها يد العون المنتظرة لإسقاط الاستبداد. وما من يمنيٍّ نادى بالتغيير، إلا وأدرك خطيئة ائتمان السعودية وحلفائها على حلمه، بعدما شاهدها تحتال لإعادة إنتاج النظام السابق، ثم تدمر اليمن على رؤوس أهله. وما من ليبيٍّ، أو مصري، أو عربي، إلا واكتشف لعبة العسكر، حين يسارعون إلى احتضان الثورة كي يخنقوها.
لذلك كله، لن تساور السودانيين المنتفضين احتجاجاً على مصادرة حقوقهم الإنسانية المشروعة، على الأرجح، أية أوهام باحتمال وقوف ما يسمى "العالم الحر" إلى جانبهم، على حساب مصالحه التي تقتضي بقاء أنظمة الحكم في مواقعها. ولن يراهنوا على مواقف أو وساطات دولٍ عربيةٍ طالما أنفقت المليارات على الثورات المضادة، لتمنع وصول الثورات الشعبية إلى عواصمها، ولن ينطلي عليهم تدخل الجيش، إن تدخل، تحت مزاعم حماية الثورة.
هم، والحال هذه، وحيدون، لكنهم غير مخدوعين بأية غيلانٍ قد ترتدي أقنعة الأمهات. وليس خروجهم إلى الشوارع، على الرغم من كل هذا الجدب في الصحاري العربية، والتخلي عن القيم الإنسانية في العالم الحديث، سوى دليلٍ قاطع على أن بذور الربيع التي سحقتها دبابات الطغاة في سورية واليمن وليبيا ومصر، لم تمت، وستعود لتنمو شجراً باسقاً، هناك، في السودان، كما في كل أرضٍ ارتوت بدم من تاقوا إلى الحرية من أبنائها، وماتوا دونها.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني