تهلّ على السودان، هذه الأيام، الذكرى التاسعة والخمسون لاستقلاله، ونزول علم الحكم الثنائي (الإنجليزي والمصري) ورفع العلم السوداني. وتبقى أسئلة مطروحة: ماذا فعل السودانيون باستقلال بلادهم؟ وما هي إنجازات الدولة الوطنية، بعد أن حكم السودانيون أنفسهم؟ هل قلت الدولة الوطنية. للأسف، الدولة التي سلمها المستعمر للسودانيين لم يعد لها وجود، بعد انفصال جنوب السودان، و(سودان المليون ميل مربع) أصبح كسوراً عددية غير قابلة للحفظ والتباهي. ويلحظ المتابع للشأن السوداني، بسهولة، فشل الطبقة السياسية السودانية في حل أزمات بلادها المستحكمة. وإذا استمعت لخطاب الرئيس عمر البشير أمام مائدة الحوار الوطني، في يناير/كانون الثاني الماضي، وقد حدد محاور الحوار، وهي، الهوية والسلام والحريات والأزمة الاقتصادية، يطرح المراقب تساؤلاً: لماذا لم يحسم السودانيون هويتهم إلى الآن؟ نعم، هوية السودانيين مازالت في طور التفاعل، ومتنازعة بين الأفريكانية والسودانوية والعروبة. السؤال عن الهوية هو بداية تشريح المشكلة، والإجابة عنه بداية العلاج والحل، لكن الطبقة السياسية والنخب غير واعية دورها، وكل همها الاستيلاء على السلطة، ليس من أجل إصلاح البلد، ورفاهية المواطن، بل من أجل فرض تمكين نخبها، لأن السلطة باب واسع للتكسب في البلدان المتخلفة، وفرض رؤيتها الأحادية على بلد متعدد الأعراق والثقافات، لم يحسم أمر هويته بعد. ومنذ جلاء المستعمر عن السودان، أي قبل 60 عاماً تقريباً، جربت على هذا الشعب الطيب الصابر كل المدارس الفكرية من اليمين واليسار، وطبقت عليه النظم السياسية كافة، من ديمقراطية نيابية إلى عسكرية مروراً بدولة الحزب الواحد. وعلى الرغم من ذلك، فشلت النخبة السياسية فشلاً ذريعاً في الحفاظ على وحدة تراب الوطن، وكان الانفصال نتيجة حتمية لبلد لم يحسن أبناؤه إدارة شأنه، وبان للعيان الضعف والقصور الذاتي للنخب الشمالية والجنوبية على السواء. فالجنوبيون، بعد تصويتهم للانفصال بنسبة 99%، وبعد قتال نصف قرن، حصلوا على دولتهم. وكان المتوقع أن ينكبّوا على تنمية دولتهم بهمة وحماسة. لكن، المؤسف أن القتال بين أبناء الجنوب اشتعل حول المناصب والموارد، ويبدو أن وحدتهم في قتال الشمال كانت تطبيقا للمثل (أنا وابن عمي على الغريب). ومع انعدام أي مقوم للتنمية، بشقيها البشري والاقتصادي، أصبح المواطنون الجنوبيون، يزاولون مهنة العصر الحجري، الصيد والتقاط الثمار. هذا هو الحال في دولة جنوب السودان. أما في السودان، فبعد الانفصال صار كل شيء يتداعى وينهار. تهاوى الاقتصاد بعد الانفصال، وخرجت عائدات البترول من الميزانية، وكانت تمثل 80%. وكان يمكن ألا يكون لخروج النفط هذا التأثير المدمر، لو أحسنت حكومة البشير إدارة عائدات النفط واستثمرتها في الزراعة والصناعة. وبدلاً من ذلك، صرفت عائدات النفط على تمكين الحزب الحاكم، وفي الأمن والحرب على الشعب. أما الحياة السياسية، فأصبحت متآكلة، وأصاب التفتت والانهيار السودان، دولة وكياناً، فها هي حركات دارفور تطالب بمنح كل ولايات السودان حق تقرير المصير، والحركة الشعبية قطاع الشمال، وهي جزء من الحركة الشعبية الجنوبية، وظلت بعد الانفصال في الشمال بحكم الانتماء، تقاتل الحكومة، لأن البشير رفض، بكل استعلاء، اتفاق (نافع – عقار) الذي حسم أمر منطقتين سلمياً، فكان القتال نتيجة حتمية. وكانت قد انهارت المفاوضات بين الحكومة وقطاع الشمال، لأن الحركة أضافت بند الحكم الذاتي.
إذن، السودان الشمالي مرشح أن يتقسم إلى دويلات. وعلى الرغم من كل هذه الأهوال، لا يلوح في الأفق حل للمأزق السوداني، فالنخب المعارضة فقدت القدرة على الإبداع وطرح نفسها بديلاً منتظراً. أما طبقة الإنقاذ الحاكمة ففقدت تماماً القدرة على الإصلاح، وأصبحت طبقة بيروقراطية مترهلة، تعيش الغيبوبة، وانحصر همها في انتخابات تخوضها وحدها بدون أحزاب، أو منافس، وكأن هذه الأحداث الجسام تحدث في بلاد (الواق واق).
مما سبق، يتجلى، بوضوح، الانهيار البطيء للسودان كدولة، وهشاشة الوضع السياسي وضعف النخب السياسية وعجزها عن رؤية حلول إبداعية، للخروج من أزمات السودان المركبة والمتحكمة. أما الشعب السوداني فمحتار بعد أن انتفض مرتين، ومازال حاله من سيئ إلى أسوأ، وثروته منهوبة، وليس هناك تنمية ولا رفاهية، فسودان بعد الانفصال فشل في إدارة التنوع، ولم يحسم أمر هويته، ولا سلطته، بعد.