السودان... البشير بعد ربع قرن
وسط التذمر الشعبي في الشارع السوداني، من اقتصاد بلغ حافة الانهيار، ووضع سياسي يزداد تأزمه، يصعب الالتفاف حول حقيقة من بقي مؤيداً للنظام الحاكم في السودان. ومع تمسك حزب المؤتمر الوطني الحاكم بإجراء الانتخابات في موعدها المحدد في أبريل/نيسان المقبل، ووسط رفض القوى السياسية المعارضة، إلى حين تشكيل حكومة قومية تشرف على العملية الانتخابية، يتجدد الاستفهام حول من قام بتنصيب الرئيس السوداني، عمر البشير، في آخر انتخابات تمت في السودان في عام 2010، ليخرج على الشعب صبيحة كل يوم بمقولة لويس الرابع عشر: "أنا الدولة... والدولة أنا"؟
وعبارة "أنا الدولة" في التجربة السياسية السودانية تدعمها نرجسية تخوّن الآخر، وتخرجه عن الملة الوطنية. وهذا النوع، بكل ما فيه من إهدار وتجنٍّ على حقوق الإنسان، فإنّه يكشف عن تسلط لروح الحكم الشمولي وطغيانه واستلابه روح المواطنة، وتدعيم اضطراب معاييرها. وقد تكون هذه المسألة واحدة من الأسباب المسؤولة بشكل مباشر عن التفكك المريع في بنية الشعور السوداني بالمواطنة، وغياب الروح الوطنية، أو تغييبها والهزء بها. وإذا بحثنا عن المعيار الذي يعتمده كل من كان في موقع لويس الرابع عشر، لتحديد درجة الإخلاص للوطن، وهو المعادل الموضوعي لمفهوم المواطنة، نجد ألّا شيء سوى معيار يعمل على قياس درجة خضوع المواطن له، رغبة منه في الحكم بشكلٍ مطلق، من دون أن يطبق هذا على نفسه، متنزهاً عن كل عيب وغرض. وبالتالي، هذا المعيار ليس سوى أداة تعمل على تجسيد الإخلاص بمقدار ما هو متاح له من سلطةٍ، يفرضها على المواطنين، تطالبهم بالتنازل عن حقوقهم، وتقيس درجة خنوعهم وخضوعهم.
إبان تدشين الرئيس البشير حملته الانتخابية في عام 2010، أطلقها حزبه من استاد نادي الهلال الرياضي في أم درمان، وخلت من أيّ أملٍ في الخلاص، بل رأت، بما لا يدع مجالاً للجدل، أنّها أحسنت فيما أساءت فيه عهود وطنية وديمقراطية أخرى للشعب السوداني. ولكن، الحقيقة أنّها لم تزد من وقوف الشعب عن بكرة أبيه في صفوف الخبز والبنزين فحسب، لكنها حولت ندرتهما إلى عدم، فلا يُتاح إلّا إلى فئة قليلة من الناس، وهي الفئة المتنفذة من أهل السلطة.
لم يكن الشعب في غيبوبة، وهو يصوّت في تلك الانتخابات، ولكن انكشفت الظلال عن انتخابات ذاك العام، بعد انفصال الجنوب. الخيبة ليست في أنّ البشير لم يكن مختاراً من الشعب السوداني، ولكن في أنّ تسهيلات الانفصال التي كان يتعنت فيها، ما كانت لتتم لولا أنّه قدّم السبت ليجد الأحد، كما في المثل السوداني الجاري، والسبت المقدّم كان تسهيلاتٍ للانفصال، ليجني في مقابلها فترة رئاسية جديدة.
منذ ذلك التاريخ، لم يكفّ الرئيس السوداني، عمر البشير، بدأبٍ غير منقطع، عن استعراض أحقيته في المكوث على كرسي السلطة، في كل المناسبات، إذ لم يكن الشعب بحاجة إلى التنقيب لمعرفة أنّ هذه هي الفرصة التي سيدافع فيها البشير عن معركته، حتى النفاذ من معمعة الانتخابات. وتماشياً مع ذلك، ولخدمة الغرض نفسه، صمّم حزبه المؤتمر الوطني لذلك نموذجاً سياسياً واقتصادياً، هدفه الاستمرار في الحكم، رغماً عن كل شيء.
وإزاء كل ما يتبدى للمراقبين من إشكالات حول انتماء حكم الإنقاذ، فإنّه بعد المفاصلة الشهيرة عام 1999، وتقسيم بيت الحركة الإسلامية السودانية، لم يبقَ من التمسك بالدين نسبةً إلى الإنقاذ إلّا اسمه وشعاراته. ولكن تجاوز الاستثمار وفق العقيدة الإنقاذية كل شيء، وتمثّل في الزج بالشباب في أتون صراعات الحزب الحاكم. أوّلها كان في الحرب بين جنوب السودان وشماله، واستمرت إلى أن أدت إلى انفصال جنوب السودان عن شماله. وها هي الحكومة تعيد الكرّة مرة بعد مرة، بإعلانها فتح معسكرات الدفاع الشعبي، وإعلان التعبئة والاستنفار، بعد اتفاق "إعلان السودان" الذي وقعته فصائل المعارضة، بشقيها السياسي والمسلح، في أديس أبابا، الأسبوع الماضي.
بدا الرئيس البشير بعد انفصال الجنوب 2011، وهو يخاطب الشعب السوداني في ثوب القائد الصليبي، ريتشارد قلب الأسد، الذي اتخذ حامية وقلعة عند شاطئ البحر المتوسط، وعندما فشل في دخول القدس عام 1119 باع قبرص للفرنسيين. لن يكون الجنوب قبرصه الوحيدة، وإنّما هناك إقليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وغيرها مما دوّن في القائمة القدرية لدعوات شعوب تلك المناطق بالحكم الذاتي.
يرتكز نظام البشير، بعد حكمه ربع قرن، على ذاكرة خربة، وعلى مفهوم قدسية النظام، فلا يرى باطلاً فيما يفعله بمبررات، ودونها من تجريم للآخر من دون النظر إلى أفعاله. أمّا ميزان الأخلاق والعدل فواضح اختلاله، بشكل يرجّح كفّة النظام على حساب كفّة الشعب. وهذه المواقف الصحيحة إلى الأبد مكبوتات نفسية عند العسكر، أينما حكموا. وفي حكم العسكر، يتجلى الإبداع في تصوير أنفسهم في مثالية مطلقة، فهم من يستأثرون بالصفات النبيلة، وذواتهم هي العليا التي تخرج دونها الذوات الأخرى عن الملّة النبيلة!