السلطة في العراق للشعب أم للمرجعية؟

19 نوفمبر 2014

موظفو الخدمة المدنية في بغداد يتظاهرون ضد الطائفية (18أكتوبر/2012/الأناضول)

+ الخط -

سؤال حائر نبحث عمن يجيبنا عنه من بين "أهل الحل والعقد"، اليوم، "ما هو شكل نظام الحكم في دولة العراق، وما علاقته بالمرجعية الشيعية العليا، وما دور هذه المرجعية في تسيير شؤون البلاد؟". من بعض موجبات حيرتنا أننا سمعنا، كما سمع غيرنا، أن الرئيس فؤاد معصوم، صاحب أعلى موقع بروتوكولي في دولة العراق، التقى المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، قبل سفره إلى السعودية، واستمع إلى "توجيهاته"، ووصف دوره بأنه "أساسي" في قيادة البلاد، و"توجيهاته حلت لنا مشكلات كثيرة". ومن بعضها، أيضاً، أننا قرأنا أن حيدر العبادي، صاحب أعلى موقع تنفيذي في دولة العراق، التقى السيستاني، بعد استيزاره مباشرة، وتلقى "توجيهاته" في "إسناد الوضع العسكري في البلاد، والاهتمام بالمواطنين، والانفتاح على الآخرين". وقبل ذلك، كنا سمعنا وقرأنا أخباراً وتقارير عن زيارات نواب ووزراء المرجعية الشيعية العليا لتلقي "التوجيهات"، وتأكيد "أن الحكومة تسير على وصايا المرجعية، وضمن توجيهاتها"، بحسب الصحف. والتقى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في زيارته أخيراً بغداد، السيستاني، وتداولا في أوضاع البلاد و"رأي المرجعية في سبل إخراج العراق من أزمته السياسية". وقيل، قبل ذلك وبعده، إن السيستاني التقى مرات مسؤولين أجانب، بينهم أميركيون وإيرانيون ومن دول أخرى، لبحث أوضاع العراق.

جعلتني هذه الكومة من المعلومات أقف محتاراً أمام سؤال صعب، أبحث عمن يجيبني عنه من بين "أهل الحل والعقد". ما شكل نظام الحكم في العراق، وما علاقته بالمرجعية الشيعية العليا، وما دور هذه المرجعية في تسيير شؤون البلاد؟ أعرف أنني قد أتهم بالتحامل، ربما بسوء القصد. لكن، مهلا، فأنا أقدر، كل التقدير، الدوافع النبيلة التي قد تدفع المرجعية الشيعية العليا، وسواها من المراجع الدينية، مراجع السنة والمسيحيين والأيزيديين والمندائيين وسواهم، لإبداء النصح والإرشاد في الأمور العامة، إلا أنني أرفع يدي اعتراضاً على التدخل المباشر لتلك المراجع في أمور البلاد وسياساتها، وقد اكتشفت أن كتّاباً طرحوا سؤالي نفسه، وجوبهوا بحملةٍ ظالمة من مواقع وصحف خاضعة لأحزاب دينية حاكمة، اتهمتهم بالكفر ومعاداة الأئمة، ولم تنس تلك المواقع تأكيد أن "السيد السيستاني مرجع أمةٍ يؤمن بمصالحها، ويسعى إلى تحقيقها". ألم يُثنِ السيد علي خامنئي على "اقتدار السيستاني على إدارة أمور العراق، ووجوب احترام توجيهاته، وعدم تجاوزها"، أليس ذلك فصل الخطاب؟

وفي الوقائع، أيضاً، ثمّة كتاب عديدون يريدون الحجر على الفكر، وأن لا يرى أحد غير ما يرونه هم في العلاقة بين الدين والسلطة، ولا يتيحون للعقل أي مكان، بتجربة سبينوزا "إذا غاب العقل ظهرت الخرافة، وإذا سادت الخرافة ضاع العقل"!

رجعت إلى "الدستور"، فلم يسعفني بأي نص عن دور "المرجعية الشيعية العليا" في إدارة شؤون العراق، بل كان واضحاً في تحديد "مصدر السلطات وشرعيتها"، وجاء في مادته الخامسة أن "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها"، وفي مادته الرابع عشرة "العراقيون متساوون أمام القانون، من دون تمييز، بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب"، وفي مادته السابعة والستين "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن"، وفي ديباجته إشارة صريحة إلى أن نظام دولة العراق "جمهوري اتحادي ديمقراطي تعددي".

بحثت أكثر، فاكتشفت أن شكل الدولة، عندنا، يبدو هجيناً، هي ليست دولة مدنية، كما أرادها الدستور، فمعظم وزاراتها تتصرف وتدير أعمالها على أساس أنها في مرحلة الشروع في بناء دولة، تشبه دولة جيراننا الإيرانيين، تتكئ على "المرجعية"، وتحيل، بالضرورة، إلى نظام سلطوي ذي صبغة فاشية، أشبه بنظام "ولاية الفقيه"، بل هو نسخة غير منقحّة منه، يضع أمور الدنيا وشؤون السياسة والحكم في مقدمتها، في يد "المرجع الأعلى"، ويجعل السلطات الثلاث خاضعة لتوجيهاته، قل لأوامره. وبالطبع، يثير هذا غضب أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى، ويدفع باتجاه تمزيق وحدة العراق، وتفتيت روابط المواطنة، كما يسيء إلى المرجعية نفسها، وإلى دورها الروحي الذي ينبغي أن يظلَّ بعيداً عن التجاذبات والأهواء السياسية والحزبية، وفي منأى عن كل ما يمكن أن يسبب الفرقة والتشرذم.

ويبدو أن دولتنا ستبقى على حالها الماثل، وحتى إشعار آخر، ما لم تصبح مهمة صياغة الهوية الوطنية الجامعة، والعمل على إعادة السلطة إلى الشعب، فرض عين، على كل القوى والتيارات التي تؤمن بوحدة الوطن وحرية المواطن، ومن دون ذلك، نكون سائرين نحو خرابٍ لا منجاة منه.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"