السلطة الغائب الحاضر في تفاهمات التسوية

25 نوفمبر 2017
لم تكن الزيارة الأخيرة للرياض مريحة (ماندل نغان/فرانس برس)
+ الخط -
مرحلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي يتم تدشينها برعاية أميركية عربية تحت مظلة صفقة القرن التي أتى بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولم يفوت فرصة لتسويقها والتبشير بها، تلك الصفقة بدأت بذورها تنبض وكينونتها تتشكل بعد الضربة غير المسبوقة وغير المتوقعة التي نفذها الحليف الاستراتيجي للإدارة الأميركية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عقب زيارة صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر للرياض، والتي مكنته من الزج بأمراء ورجال دولة ورجال أعمال سعوديين في السجن بذريعة مكافحة الفساد، ولم تتوقف جهود بن سلمان عند حدود مملكته، بل استدرج رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى الرياض وأجبره على إعلان استقالته من هناك، ثم طاولت الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي استدعي على عجل وبطريقة لا تخلو من الاستخفاف للحضور إلى المملكة للقاء العاهل السعودي الذي مارس ضغوطاً على عباس في ظروف وصفت بأنها غير مريحة خُير فيها الرئيس الفلسطيني، حسب ما أوردته وسائل إعلام عبرية، بين القبول بالصفقة الأميركية كما هي مع كل ما يرد فيها من تنازلات، أو الاستقالة من رئاسة السلطة لإيجاد بديل يقبل هذا القدر من التنازلات.
فلم يكن اللقاء بالقيادة الفلسطينية للمشاورة والتحاور حول صفقة تعنى بصياغة تفاهمات حول الصراع المرتبط ارتباطًا جذريًا ووجوديًا بالقضية الفلسطينية ويؤثر في مجرياتها ومستقبلها، إلا أن الرياض وحلفاءها يتجاهلون السلطة كممثل للشعب الفلسطيني ويفرضون أجندتهم وسياساتهم عليها ويحرمونها من حقها في اتخاذ القرار، ويضعونها في خانة التنفيذ فقط، بعد أن كانت مرتكزًا فاعلًا لتحركات وتفاهمات تسوية عربية ودولية عُقدت مع إسرائيل، فاللعبة بين أطراف إقليمية ودولية لا تنظر للصراع من نافذة القضية الفلسطينية وتسعى في جوهرها إلى تحقيق تسوية إقليمية تنطوي تحتها التسوية الفلسطينية وتتمكن من خلالها دول عربية وخليجية من إقامة تطبيع شامل مع إسرائيل.
هذا التغول السعودي على السلطة ومؤسساتها ليس غريبًا، فالسلطة لا تملك مشروعًا أو رؤية مدروسة ولم تبلور تصورًا واضحًا حول مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمكن طرحه والنقاش حوله في المحافل الدولية والعربية، وبذلك تركت الساحة خالية أمام أي مبادرة أو تصور يمكن أن يملأ الفراغ، كما أنها عاجزة عن استغلال ما تملك من أوراق قوة يمكن من خلالها إجبار اللاعبين الكبار على إشراكها في إدارة الصراع وهي المعنية والمتأثرة بشكل مباشر بأي حل أو تسوية مع الاحتلال الإسرائيلي.
فالسلطة الفلسطينية اليوم في أشد مراحلها سوءًا، وخصوصًا على المستوى السياسي والدبلوماسي، فقد اقتصر دورها على التنسيق الأمني وتسيير الحياة اليومية للفلسطينيين بعد أن أجهزت إسرائيل بمشاريعها الاستيطانية على أي أمل ممكن لإقامة دولة فلسطينية وتعثر عملية التسوية السلمية ووصولها إلى طريق مسدود، وفي ظل توتر العلاقة بين السلطة وإسرائيل حلت قوى عربية لها نفوذها ووزنها في الساحة الإقليمية والعالمية بالسر والعلن محل السلطة وباتت أشد قربًا وانسجامًا مع إسرائيل وأكثر قدرة على تحقيق المصالح الإسرائيلية.
ولا يمكن إعفاء السلطة وتبرئة ساحتها من مسؤولية إمراض ذاتها وتقويض الموقف الفلسطيني حين انشغلت بصراعات وخلافات داخلية متشعبة أحدثت شروخًا عميقة وجذرية تنخر في صلب الجسد الفلسطيني وتستنفذ قوته، هذا إضافة إلى تجاهلها المستمر لضرورة ترتيب البيت الداخلي ورأب الصدع الناتج عن الانقسام البغيض بين شقي الوطن والذي حتى اللحظة ما زال يلقي بأعبائه على الواقع الفلسطيني.
أضحت السلطة أكثر إفلاسًا وأقل تأثيرًا في أي قرار مصيري نتيجة تهميشها وتعطيلها للمؤسسات السيادية الفلسطينية كمنظمة التحرير، وعدم بنائها لمؤسساتها السلطوية على أسس ديمقراطية وقواعد سليمة، وفي هذا السياق لا يمكن إغفال ارتهان قرارات وتوجهات السلطة الفلسطينية للجهات المانحة فهي قائمة أساسًا ومستندة على المساعدات المالية التي تتلقاها من أميركا والاتحاد الأوروبي والدول المانحة، ولم تكن منذ إنشائها مستقلة بشكل فعلي في تقرير سياساتها، مما أثر على خياراتها وعلى كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني.
السلطة الوطنية الفلسطينية بقياداتها والمتحكمين في قراراتها غير قادرة على إجبار أي طرف عربي أو دولي على عدم تجاوزها أو حتى على عدم التنازل عن الحقوق الفلسطينية والتفريط بالثوابت كحق عودة اللاجئين والقدس، وهي التي فرطت وتنازلت ابتداءً عن كثير من الحقوق والاستحقاقات الفلسطينية لإسرائيل طوعًا وبدون أي مقابل.
تقف القيادة الفلسطينية عاجزة أمام التهافت والركض العربي نحو التحالف مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها والذي يمثل إعدامًا حقيقيًا للقضية الفلسطينية وتنكرًا لتاريخ طويل من التضحيات والنضال الفلسطيني والعربي ضد الاحتلال الإسرائيلي، في ظل توجه الأنظمة العربية وبخطط مدروسة وممنهجة لتسويق إسرائيل عند شعوبها بطريقة ناعمة عبر وسائل شتى وبجهود ومباركة من مشايخ وسياسيين وأكاديميين ومفكرين وإعلاميين تحت ذريعة إيجاد تحالف سني إقليمي قوي يواجه تمدد إيران ويعمل على تحجيم نفوذها المتزايد في المنطقة، وقد يتعدى تأثير التسوية المرتقبة الحدود السياسية ليصل إلى المكونات الاجتماعية والثقافية للمواطن العربي فتتحول إسرائيل بالتدريج من دولة احتلال إلي دولة حليفة وصديقة، مما يمنح إسرائيل فرصة التغلغل داخل المجتمعات العربية وقد يترتب على ذلك تغير المفاهيم والأيديولوجيا العروبية وتلويث العقل والفكر والذات العربية ويشكل انهيارًا حقيقيا للقومية العربية، وإنهاء خصوصية القضية الفلسطينية في الصراع وهتك حرمتها، وتصفيتها بعديد مكوناتها ويحفظ لإسرائيل صعودها وأمنها واقتصادها دون أن تقدم أي تنازلات للفلسطينيين.
على القيادة الفلسطينية بجميع أطيافها وتوجهاتها أن تفرض نفسها على اللاعبين الرئيسين من خلال الوسائل المتاحة والمتيسرة وأن تعمل كل ما يمكن عمله عبر المنابر الدولية والعالمية وتجنيد المدافعين عن حريات الشعوب وحقها في تقرير مصيرها لجانب الحق الفلسطيني، مع ضرورة الحشد الجمهوري والتسلح بالحاضنة الشعبية لإيقاف مشروع التسوية أو تعطيله إلى أقصى مدة ممكنة وعدم الاستجابة للضغوطات مهما كانت النتائج مؤلمة وقاسية وإن كان للسلطة الفلسطينية من فرصة للمراوغة والمماطلة فالوقت هنا عامل حاسم لو أحسن الطرف الفلسطيني استخدامه.
(باحث فلسطيني في العلوم السياسية)
المساهمون