السلطة الجزائرية والأمازيغ: تقطير المكاسب لاحتواء الغضب

30 ديسمبر 2017
حراك مطلبي مستمر في منطقة القبائل (فاروق بطيش/فرانس برس)
+ الخط -
أثار قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إنشاء أكاديمية عليا للغة الأمازيغية والاعتراف بيوم 12 يناير/ كانون الثاني كعيد رأس السنة الأمازيغية، والتكليف بتعميم استعمال وتعليم اللغة الأمازيغية، مزيداً من الجدل القائم منذ فترة بشأن المطلب الأمازيغي. ففيما تنظر أطراف سياسية مدنية بعين الرضا إلى القرارات الرئاسية وتعتبرها تصالحاً مع الهوية والثقافة الأمازيغية وسحباً للتلاعب السياسي بهذه القضية، تنظر أطراف أخرى بعين الشك والريبة إلى القرارات الرئاسية، وتعتبرها خضوعاً للشارع وخوفاً من عودة الحراك المطلبي إلى منطقة القبائل المشحونة سياسياً ضد السلطة منذ عام 1963، تاريخ أول تمرد مسلح تشهده الجزائر المستقلة، قاده حسين آيت أحمد في المنطقة ضد سلطة الرئيس أحمد بن بلة وقائد الجيش هواري بومدين آنذاك.

وتسعى السلطة في الجزائر بشكل مستمر إلى انتهاج سياسة "تقطير المكاسب" مع الحركة الأمازيغية، فمنذ بداية التسعينيات تصدر السلطة قرارات تخص الاعتراف الرسمي باللغة والهوية الأمازيغية، بعد مسار نضالي اتسم بالعنف تارة وبالنضالية السلمية تارة أخرى، كانت أبرز محطاته انتفاضة "الربيع الأمازيغي" في إبريل/ نيسان 1980، و"إضراب المحفظة" نهاية عام 1994، و"الربيع الأسود" في إبريل 2001، والمسيرة الحاشدة باتجاه العاصمة في يونيو/ حزيران 2001. وحصلت القضية الأمازيغية على مكاسب هامة، بينها تدريس اللغة الأمازيغية في 37 ولاية حتى الآن من مجموع 48 ولاية، والاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية في دستور 2005، ثم كلغة وطنية ورسمية في دستور فبراير/ شباط 2016، إضافة إلى إنشاء المحافظة السامية للأمازيغية، وتنظيم مهرجانات للسينما والمسرح الأمازيغي، وإنشاء قناة تلفزيونية حكومية ناطقة باللغة الأمازيغية.

لكن القرارات الأخيرة التي جاءت كسابقاتها بعد حراك احتجاجي، تثير حفيظة كثير من الناشطين الذين يدرجونها في سياق رد فعل السلطة على الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها ولايات بجاية والبويرة وتيزي وزو، ذات الأغلبية من السكان الأمازيغ، ومحاولتها تهدئة الشارع من جهة، كما تعطي من جهة ثانية مؤشرات واضحة على أن السلطة لا تستجيب للمطالب إلا تحت ضغط الشارع والاحتجاج المتواصل، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تشجيع الناشطين في الحركة الأمازيغية للاستمرار في المزيد من المطالب، خصوصاً في الفترة المقبلة التي تعيش فيها السلطة هشاشة اقتصادية ومالية كبيرة وتواجه وضعاً سياسياً متقلباً.

وبعيداً عن بعض المخاوف والهواجس التي تطرحها بعض الأطراف، يعتقد باحثون أن اتخاذ بوتفليقة للقرارات الأخيرة من شأنه أن يدعم مقومات الوحدة الوطنية في الجزائر، ويسحب القضية والمطلب الأمازيغي من ساحة الاستغلال السياسي، ويعيد الأمور إلى نصابها بعد فترة طويلة من تهميش البعد الأمازيغي، ما أدى إلى ردود فعل أخذت أبعاداً خطيرة. وفي هذا السياق، يرى الباحث والناشط السياسي رابح لونيسي، أن "هذه القرارات تدخل في إطار سحب أي محاولة توظيف أو استغلال للبُعد الأمازيغي في تلاعبات سياسية، وهو ما يجب تطبيقه على كل المقوّمات المرتبطة بالوحدة الوطنية في الجزائر". لكنه لا يستبعد "استفادة السلطة من ذلك، وعلى رأسها بوتفليقة، لكن ومع ذلك فنحن في الطريق السليم لإبعاد توظيف واستغلال مكوّنات هويتنا سياسياً، ويجب تركها فقط في المجال الثقافي والأكاديمي، أي كل مقوّم في مكانه الطبيعي".
ويعتبر لونيسي أن "إعادة الاعتبار للمقوّم الأمازيغي لن يحيي أي صراعات إثنية، بل على العكس فالمقوّم الأمازيغي عامل إضافي لتحقيق وحدة مغاربية في إطار فيدرالي، لأن يناير مثلاً كعيد رأس السنة هو عيد مغاربي بامتياز، ويمكن أن نعطيه بعداً وحدوياً مغاربياً".


وإن كانت قرارات كهذه قد تأخرت بالنظر إلى المشاكل والآثار السياسية التي خلّفها تشدد السلطة في الجزائر في قت سابق مع المطلب الهوياتي للحركة الأمازيغية منذ "الربيع الأمازيغي" في إبريل/ نيسان 1980، فإن الباحث المتخصص في الثقافة والهوية الأمازيغية محمد أرزقي فراد، يعتقد أن القرارات الأخيرة للرئيس الجزائري هي قرارات تاريخية وتصالح مع الهوية، من شأنها أن تقطع مع عقلية الصد السياسي التي كانت تمارسها السلطة في العقود الماضية، مضيفاً: "اعتبار يناير عيداً وطنياً، وإنشاء أكاديمية وتعميم تعليم اللغة الأمازيغية، قرارات تاريخية تندرج في إطار المصالحة مع المكون الأمازيغي، وبقرارات كهذه ستكتمل مواطنية جزء كبير من الجزائريين، وهو الأمر الذي سيدعم اللحمة الوطنية".

لكن مراقبين يتساءلون عما إذا كانت قرارات بوتفليقة بشأن الهوية واللغة الأمازيغية، يمكن أن تسهم في الحد من الحراك المطلبي المستمر في منطقة القبائل. وفي هذا السياق، يقول الكاتب والإعلامي المهتم بالملف، أحسن خلاص، إنها "قد تكون فترة هدنة لغاية شهر مارس/ آذار المقبل، وبعدها سنكون على موعد مع ذكرى الربيع الأمازيغي في شهر إبريل"، مضيفاً أن "الشارع في منطقة القبائل تحركه القضية الأمازيغية كما تحركه السياسة باسم القضية ومسائل أخرى، لذا لا أعتقد أن الشارع ستهدئه القضية وحدها، والحركة الانفصالية التي برزت في الفترة الأخيرة في المنطقة تتغذى من منابع أخرى، وهذه الحركة تنطلق من مقاربات أخرى تتعدى مسألة الهوية والثقافة واللغة".

كذلك يعتبر مراقبون أن قرار بوتفليقة إنشاء أكاديمية علمية لتطوير اللغة الأمازيغية من شأنه أن يقطع مع ما يعرف بالأكاديمية البربرية التي أنشأها مستشرقون في باريس، وتنظر إليها السلطات الجزائرية بعين الريبة وتعتبرها إحدى دعامات محاولات خلق حراك انفصالي في منطقة القبائل. ويقول خلاص إن "الأكاديمية الجديدة يمكن أن تكون خطة جيدة لسحب القضية نحو المسار الأكاديمي وإبعادها عن التجاذبات السياسية".

لكن ثمة مفارقة تستدعي الانتباه وتثير مزيداً من الشكوك وتغذي الصراع الهوياتي المتفاقم في الفترة الأخيرة في الجزائر، ففي الوقت الذي تتقدّم فيه القضية الأمازيغية على صعيد تحقيق مزيد من المكاسب المشروعة والتكريس القانوني والرسمي والدستوري، يتراجع تعليم اللغة العربية واستعمالاتها بشكل كبير، على صعيد المنظومة التربوية والإدارة والخطب الرسمية، إذ يُفضّل قطاع واسع من المسؤولين في الجزائر الحديث باللغة الفرنسية واستعمالها في مراسلاتهم بشكل رسمي، ناهيك عن تعطيل قانون تعميم اللغة العربية منذ مجيء بوتفليقة إلى الحكم. كذلك تشهد البلاد حالة تضييق على تعليم الدين والتربية الإسلامية في النظام المدرسي الأخير، وهو ما أثار احتجاجات من قبل نقابات الأساتذة والأحزاب السياسية والهيئات والمرجعيات الدينية في الجزائر، وهو ما يعتبره مراقبون سوء حكم سياسي وغياب رؤية واضحة لتوجّهات السلطة السياسية، ما أتاح التفاقم الحاد للنقاشات الإثنية أخيراً في الجزائر.

المساهمون