الستاند أب كوميديان.. ما ضرّ لو كان جلس؟

18 نوفمبر 2016
يو مينجون / الصين
+ الخط -

حاملين معهم تماثيل تجسّد العضو الذكري؛ كان فلاحو اليونان القديمة يسيرون مخمورين بمواكب غنائية، يحتفلون بعيد إله الخصب "فاليت". من هنا، بدأت فكرة الكوميديا كفنٍّ بالظهور في اليونان قبل أكثر من ثلاثة قرون قبل الميلاد، وهو ما ترجمه أريستوفان ( 386-446 ق.م) في مسرحياته القليلة التي وصلتنا، ونبّه إليها أرسطو لاحقًا في كتابه "فن الشعر"، مؤكّدًا أن هذا الفن اعتمد على الارتجال بادئ الأمر، قبل أن يفسح المجال أمام التعبير عن كافة أشكال السخرية والتهكم.

استمر تطور فن الكوميديا لينبثق عنه بعد قرون "الستاند أب كوميدي"؛ الذي أخذ مكانته الكبيرة اعتبارًا من القرن الثامن عشر، حيث كانت العروض تنظّم في الملاهي والمسارح، ويُعبّر من خلالها الفنان عن عمق قضايا المجتمع وهموم الناس وتفاصيلها، معتمدًا على روح الفكاهة؛ في نقد وتفكيك ومعالجة القضايا التي تشغل المجتمع.

إلا أنّ "الستاند أب كوميدي" لا يحكُمه امتلاك الممثل روح النكتة وخفة الظلّ فحسب، كما يتبادر للبعض اليوم؛ بل يدخل أبعد من ذلك في قدرته على إيجاد نسقٍ رشيق يجمع بين إيماءات الوجه وحركات اليدين، وصولًا إلى ارتجال النكتة وليدة اللحظة، وتوظيفها في النص لكسر الحاجز الذي كان يعيق الناس عن الحديث حول قضايا حساسة أو محرّمة.

في العقد الأخير، انتقل هذا الفن من خشبة المسرح إلى هواتفنا الذكية وأجهزة الحاسوب، وكأي شيء آخر، بات من السهل جدًا تحطيم فكرته النبيلة وتنميطها؛ إذ أصبح كل من يجد نفسه ظريفًا، يستسهل الخروج بمقاطع فيديو تتكون من سردٍ سريع لآخر ما سمعه من طرائف في الشارع، تصاحبها حركات غير متناسقة؛ تشعرك أنه يريد التخلّص من يديه، إذا كان لهذا أن يُضحكك.

لا تكتمل الصورة بالنسبة لهذه الفئة إلا بعد إدخال سلسلة مشاهد "Zoom in / out" على وجه الممثل أثناء التصوير والمونتاج، بالتزامن مع تكرار جمل على غرار "إيش فيه؟!"، أو "أنا مش فاهم"؛ وكأنه يصدح بحكمة ما، خصوصًا عندما يكرس طاقته للتحدث إلينا من منطلق "اليوم بدّي أحكيلكم ..." الذي يشعرك بأنه إنسان كلّي المعرفة، أو واعظ، سيقوم بتعليمنا ما لم نعلم.

من المهم التساؤل إن كان سرد النكات واستحضار طرائف الشارع إلى المسرح أو الشاشة؛ على صلة بمفهوم "الستاند أب كوميدي"، أو إن كان هذا الفن قد اختُزلَ برأي "الكوميديان"، من كلا الجنسين، بقضايا تتعلق بتصنيف أحاديث الفتيات في صالونات التجميل، وتعداد أنواع الشباب الجامعي، وغيرها من المسائل السطحية التي لا تعدو أن تكون محض ثرثرة، تخلو من أية قيمة مضافة.

ما نعرفه عن هذا الفن، من خلال متابعتنا لنجوم أجادوا إحضار الواقع المؤلم معهم إلى خشبة المسرح؛ أنه وُجد لنقد القضايا الحياتية في المجتمع، حيث يوظّف الفنان موهبته للسّخرية من الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ لكن ما يحدث فعليًا أن معظم من يقدّمون أنفسهم كممثلين كوميديين؛ يعملون على تكريس خطاب كان من المفترض عليهم تفكيكه وهدمه من خلال هذا الفن، ويساهمون في تشويه مفهوم هذا الفن وتسطيحه.

لم توجد الكوميديا، بمختلف ألوانها، لمجرد إثارة الضحك عند الجمهور، بل إن أرسطو وجد في هذا النمط استخفافًا بالكوميديا وعيبًا في حق هذا الفن، وهبوطًا بجوانب كثيرة من الطبيعة البشرية إلى مستوى لا يليق بها. وفي أدبيّات النقد الفني والمسرحي، ينتج النص الكوميدي من التفكير في المأساة أول الأمر، ويتناول انفعالات الإنسان من حزن وضياع ومعاناة واضطهاد، قبل أن تترجم إلى عمل كوميدي بصورته التي يراها الجمهور.

بالطبع، كان لوسائل التواصل الاجتماعي وما خلقته من "أنا" كبيرة داخل وعي معظم الشباب؛ دور أساسي في إنتاج نزعة فردية تسعى وراء الشهرة وجمع الإعجابات والتسابق على رفع عدد المتابعين؛ بغض النظر عن المحتوى. وفي ما يخص "الستاند أب كوميدي"؛ وجد فريق منهم أن الوقوف أمام كاميرا والثرثرة بأمور سخيفة على طريقة "البلطجية" وباستخدام عبارات سوقيّة، طريقة سهلة لإشباع رغبات هذه "الأنا"، من  دون الأخذ بالاعتبار المهمّة الأساسية المتمثلة بطرح محتوى عميق، مراهنين فقط على رصيدهم الفردي من النكتة، الذي سيخبو عاجلًا أم آجلًا.

كان سيغموند فرويد يرى أن النكتة التي يطلقها الناس ما هي إلا نوعٌ من التطهير للنفس، وتفريغ للمكبوت من عواطف وانفعالات إنسانيّة، قيّدها الدين والعادات والموروث الفكري للمجتمعات؛ ولم تكن النكتة بذلك أبدًا مجرّد تسلية أو إثارة أو طريق للشهرة. النقلة النوعية التي حققها فن الستاند أب كوميدي، خصوصًا عندما كان يُعرض أمام الناس مباشرة في المسرح، هو توظيف النكتة لفضح وتعرية كل ما هو مكبوت ونزع القدسية عنه ليتكمن الناس من مجابهته.

ألهم فنانون مثل جورج كارلين (1937 – 2008) وروبن ويليامز (1951 – 2014) وإيدي ميرفي ومارتن لورنس، العديد من الشباب حول العالم للاحتراف في مجال الستاند أب كوميدي، لكن من غير الواضح إذا ما كان للمواهب العربية الصاعدة في هذا المجال؛ أي إطلاع على أعمال وتجارب وخبرات هؤلاء الفنانين أو غيرهم، ولا نعلم إن كان ثمّة عملٌ دؤوب من قبلهم لتطوير المحتوى ورفع جودة الأداء المقدّم للجمهور، أو ما إذا كان لديهم نيّة للتخلص من التقليد والدخول في تجربة حقيقية؛ تعكس بالفعل ما وجدت الكوميديا لتحقيقه؛ منذ أريستوفان وحتى عصر التكنولوجيا.

المساهمون