السادات، وما أدراك ما السادات (3)

28 ديسمبر 2015

السادات وعبد الناصر في 1955 (Getty)

+ الخط -
في ظلال عبد الناصر: من القفا الخنزيري إلى بيت الهرم

 ـ عبد الناصر يقول للسادات قبل يونيو 67: البلد بتحكمها عصابة يا أنور ـ وبعد الهزيمة يقول له: انت مسكين زيك زي الشعب يا أنور بتصدق بيانات القيادة ــ ما الذي حدث عندما استمع مجلس قيادة الثورة إلى نكتة الثعلب المصري الذي هرب إلى ليبيا؟ ـ لماذا حاول هيكل تلبيس السادات مسؤولية حرب اليمن ولماذا حاول حسين الشافعي تلبيسه مسؤولية الوحدة مع سورية ـ السادات يهرب من مضايقات زملائه ويكتب استقالته طالبا السماح له بالعيش في لبنان ليستمتع بالجمال.

الحكاية وما فيها، أن أزمة دبلوماسية وقعت في عام 1953، بسبب واحد من المقالات الكثيرة التي كان أنور السادات يكتبها، وينشرها في صحيفة الجمهورية التي كلفه مجلس قيادة الثورة بإدارتها، حيث أغضب المقال السفير الأميركي الذي اشتكى لجمال عبد الناصر من مقال السادات الذي شتم جون فوستر دالاس (وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس إيزنهاور) في إطار حملة مصر الشرسة على مشروع حلف بغداد، فاستدعى عبد الناصر السادات لسؤاله بالتحديد عن عبارة وردت في المقال، تقول "إننا نريد أن نصفع دالاس على قفاه الخنزيري"، ليفاجئه السادات بأنه لا يعرف شيئاً عن العبارة، وأنه أصلا لم يقرأ المقال المنشور باسمه، وحين استفهم عبد الناصر عن سر حدوث ذلك، اعترف السادات أنه يعطي أفكاره إلى أحد كتاب جريدة الجمهورية، ليصيغها له وينشرها باسمه، فطلب منه عبد الناصر أن يراجع في المستقبل ما ينشره باسمه. وعلى الرغم من أن هيكل يقول إن هذا الموقف تكرّر كثيراً، لكنه لا يقول لنا لماذا سمح عبد الناصر للسادات بأن يستمر في منصبه، ليكرّر فعلته أكثر من مرة.  

لم يكن مشهد "القفا الخنزيري" أول بخت السادات مع الأميركان، فقد سبقه الكثير من الود والتودد، ليس مع السادات وحده، بل مع ضباط الثورة كافة، وهو ما يكشفه السادات في مذكراته، حين يقول: "قبل أن أعلن قيام الثورة، وفي فجر ليلة 23 يوليو، فكّرنا في الاتصال بالأميركان لنعطيهم فكرة عن أهداف الثورة وطبيعتها، فقد كانت صورة أميركا في أذهاننا مقترنة بحماية الحرية ومناصرة حركات التحرر"، من دون أن يذكر نموذجاً لحركات التحرر التي ناصرتها أميركا في ذلك الوقت، لكنه يذكر، بعد ذلك، سبباً آخر للقاء من دون أن يشرحه، وهو "رغبة الثورة في تحييد الإنجليز".

كان علي صبري الضابط المسؤول بمخابرات الطيران ورئيس الوزراء فيما بعد، هو الذي استخدمه الضباط الأحرار للاتصال بالأميركان، لأنه كان صديقاً للملحق العسكري الأميركي. وبالفعل، تم نقل رسالة الضباط إلى مستر كافري، السفير الأميركي، في ساعة مبكرة من صباح 23 يوليو، وكما يقول السادات "اعتبر السفير الأميركي كافري هذا لفتة طيبة منا، وخاصة أنه كان صديقاً شخصيا للملك فاروق، وبالفعل، كان اتصالنا به بداية علاقة طيبة بيننا وبينه، حتى أنه في الوقت الذي كان فيه الإنجليز يبذلون كل جهدهم لمعرفة من هم رجال الثورة، كان السفير الأميركي قد دعانا إلى العشاء في بيته بالسفارة، فلبينا جميعا دعوته، أعضاء مجلس الثورة جميعا".

بالتأكيد، أصبحنا نعلم الآن أن مشهد "القفا الخنزيري" لم يكن أيضا آخر بخت السادات مع الأميركان، فقد بدأت العلاقة تتوثق بين الطرفين، منذ زيارة السادات إلى أميركا عام 1966 في إطار سعي عبد الناصر إلى تحسين العلاقات مع الأميركان، وهي الزيارة التي شهدت تفاصيل مغرقة في العبثية، رواها أحد الشهود عليها، المحامي المخضرم أحمد طلعت، في شهادته التي سبق أن عرضت لها من قبل، والتي ستجدها في كتابي "فيتامينات للذاكرة"، وقد أشار السادات نفسه إلى الزيارة برضا بالغ في كتابه "البحث عن الذات"، قائلا "استقبلونا أحسن استقبال، وعندما زرت الكونغرس، أجلسوني على مقعد الرئيس، وهو نفس الكرسي الذي جلست عليه عند زيارتي لأميركا عام 1975". وعلى الرغم من أن الزيارة لم تحقق أهدافها، بسبب تصريح ناري أطلقه عبد الناصر ضد أميركا، خلال وجود السادات هناك، وهو ما أثار استغراب السادات كثيراً، إلا أن تلك الزيارة، بكل تفاصيلها الإنسانية، شكلت محطة مهمة في علاقة السادات بالأميركان التي تطورت عبر السنين، حتى وصلت إلى حد تصريح السادات علانية أن 99 في المائة من أوراق اللعبة بيد الأميركان، وهو التصريح الذي أدى إلى إبعاد السادات كل من يعارض الهوى الأميركي من بين مساعديه، أياً كانت كفاءتهم السياسية أو الدبلوماسية، وهو بالطبع ما لم يكن ليحلم به السفير الأميركي في ذلك اليوم الذي احتج فيه على عبارة "القفا الخنزيري".

في جلباب عبد الناصر

في كتابه "البحث عن الذات"، يرسم السادات صورة شديدة القسوة للطريقة التي كان يعامله بها الجميع في مجلس قيادة الثورة، بمن فيهم عبد الناصر، فهو يروي، مثلاً، أن عبد الناصر قال له مرة في أحد الاجتماعات "انت قاعد تلخص كلام الأعضاء وتتكلم كلاماً لا معنى له، وتتصرف كأنك رئيس مجلس قيادة الثورة". وفي موضع آخر، يروي السادات أنه حين قال، في اجتماع للمجلس، إنه لا يريد تولي منصب وزاري، لأنه لا يفهم إلا في السياسة، فقال له صلاح سالم متهكماً: "وما هي السياسة التي تفهم فيها؟"، فقال له السادات "أنا أقصد بالسياسة كيف نوصل مصر من أقصر وأسرع طريق إلى أمانينا"، فغضب صلاح سالم من كلامه وكأنه ارتكب جريمة، "واشترك معه البعض وعلى رأسهم عبد الناصر". يقول السادات متأثراً مما حدث: "لم يهمني صلاح سالم، فقد كان معروفا بحب الظهور والتهجم، ولكن هالني أن ينضم إليه عبد الناصر، وهو من كان يربطني به رباط من الاحترام المتبادل". وكالعادة يفسر السادات ذلك بحقد زملائه عليه، لأنه كان الأشهر لدى الشعب، وهو التفسير نفسه الذي يستخدمه، حين يتحدث عن دأب محمد نجيب، رئيس مجلس قيادة الثورة، على مهاجمته، وهو ما دفع السادات لأن يكتب استقالته من مجلس قيادة الثورة، ويطلب جوازات سفر له ولزوجته، لكي يعيش في لبنان. لكن، لماذا لبنان؟، يسأل السادات، ويجيب قائلا "لأنني كنت أسمع أنها بلاد جميلة غنية بمناظرها الطبيعية، وأنا أحب الجمال، ويسعدني أن أعيش مع الطبيعة".

لم يقبل عبد الناصر استقالة السادات، وحرمه من حلم العيش في لبنان، فبعد عزل محمد نجيب، وتشكيل عبد الناصر الوزارة عام 1954، وبعد أن أبعده عبد الناصر عن جريدة "الجمهورية"، منحه منصب وزير دولة، ولكن من دون أي مهام محددة، وهو ما يبرّره السادات قائلاً: "كان جمال يصف هذا الموقف بيني وبينه بأنني رجل الدورية الذي يبقى في الخارج، لكي يضمن سلامته"، لكن عبد الناصر قرّر، فيما بعد، أن يعطي السادات مهمة أكثر تحديداً، حتى لو لم تكن تبدو ذات أهمية كبرى، فمنحه، في عام 1955، منصب الأمين العام للمؤتمر الإسلامي، لكن السادات، من خلال ذلك المنصب الذي يبدو شرفياً، قام بتكوين عدد كبير من الصداقات مع السياسيين العرب، كان أبرزهم كمال أدهم، صهر الأمير فيصل (الملك فيما بعد)، والذي أصبح فيما بعد مشرفاً على المخابرات السعودية، ليلعب دوراً خطيراً في دعم علاقات السادات مع الأميركان.

 حين انتهى مجلس قيادة الثورة رسمياً في 22 يونيو 1956، بعد انتخاب عبد الناصر رئيساً للجمهورية بالاستفتاء، لم يحزن السادات على ذلك، فقد كان منبوذاً طوال الوقت داخل المجلس، وكان قد قرر أن يترك نفسه لعبد الناصر، ليضعه في أي منصب، مهما كانت أهميته منخفضة. ومع ذلك، يحرص السادات، في مذكراته، على أن يعلن سخطه بأثر رجعي على أوضاع البلاد التي كان "الشعور بالخوف يعمها"، بنص تعبيره، على الرغم من أن شعبية عبد الناصر كانت، في ذلك الوقت، في أعلى معدلاتها، بفضل تأميم قناة السويس، وما تم تسويقه شعبياً بوصفه نصراً على العدوان الثلاثي، لكن السادات يرى عكس ذلك تماماً، ليتحدث عن إدانة الشعب عبد الناصر وقيادته، حتى أنه يحكي عن استماع مجلس قيادة الثورة قبل انتهاء أعماله رسمياً، إلى نكتة انتشرت في البلاد، تقول: "كان فيه مرة تعلب، عدّى الحدود ودخل ليبيا، مسكوه هناك، وقالوا له: انت جاي هنا ليه، قال لهم: أصلهم في مصر بيمسكوا الجمال، قالوا له: لكن إنت تعلب، قال لهم: حلني على ما يعرفوا إني تعلب". ويعلق السادات على النكتة التي ينسبها بعضهم إلى مرحلة لاحقة، قائلا "نقلت إلينا النكتة ونحن في مجلس الثورة فضحكنا طويلاً، وكان الأجدر أن نعي ما تتضمنه من إدانة الشعب لنا، فنتدبر أمورنا قبل فوات الأوان". ويبدو أن الحالة الدرامية التي كانت تتلبس السادات، وهو يكتب المذكرات، قد جعلته ينسى أنه، قبل صفحات من تلك السطور، كان قد اعترف صراحة أنه كان من الذين صوتوا ضد الديمقراطية في بداية مجلس قيادة الثورة، وأنه كان يرى أن الشعب زهق من الديمقراطية والحريات، وأنه يحتاج إلى الديكتاتورية العادلة لحكمه، وهو ما طبقه عبد الناصر بالفعل، بعد أن كان الوحيد الذي رفضه من قبل، فلم يجد من السادات أدنى نصح أو اعتراض، بل وجد منه مباركة وتأييدا طول الخط.

أول نوبة قلبية

في عام 1957، وبعد تشكيل أول برلمان "منتخب"، قال عبد الناصر للسادات إنه سيسند إليه منصب رئاسة المجلس "المنتخب"، لكنه فوجئ قبل انعقاد المجلس "المنتخب" بثلاثة أيام يغير رأيه، ويقول للجميع أنه سيسند منصب رئاسة المجلس "المنتخب" إلى عبد اللطيف البغدادي، ويعرض على السادات منصب وكيل المجلس، ليكتم السادات مرارته وغضبه، ويوفرها لمذكراته بعد عشرين عاماً من وقوع ذلك، ويوافق على قبول المنصب، على الرغم من استغراب زملائه وأصدقائه. ويبدو أن عبد الناصر لم ينس وعده القديم للسادات، ففي عام 1960، وبعد قيام الوحدة مع سورية بسنتين، منح عبد الناصر منصب رئيس مجلس الأمة المشترك بين مصر وسورية للسادات، وفي حين يعتبر السادات ذلك تأكيداً على ثقة عبد الناصر فيه، فإن هيكل يقول إن عبد الناصر برّر له ذلك القرار ضاحكاً بأن السادات هو الوحيد الذي يستطيع أن يخطب بصوت عال، مثل كل البعثيين السوريين.

يبدو هيكل هنا أرحم بكثير من عدو آخر للسادات، هو حسين الشافعي، عضو مجلس قيادة الثورة غريب الأطوار، والذي قال إن الوحدة مع سورية "كانت طعما أميركياً لمصر، ساعد على تقديمه السادات الذي كان، كما تقول الواشنطن بوست، عميلا للمخابرات الأميركية منذ الستينات". وبالطبع، لم يكلف الشافعي نفسه عناء تذكّر أن الوحدة مع سورية قامت عام 1958، قبل الموعد الذي يحدده لعمالة السادات للمخابرات الأميركية. وبالتالي، لم يكلف نفسه أيضاً عناء نشر تاريخ العدد الذي أذاعت فيه "واشنطن بوست" ذلك السر الخطير المزعوم، والحقيقة أن ما قاله الشافعي لا يختلف كثيراً، في جوهره، عما حاول محمد حسنين هيكل فعله، حين أكد في كتابه "خريف الغضب" أن السادات هو الذي ورّط عبد الناصر في حرب اليمن، وأن ذلك حدث بسبب علاقة السادات الوثيقة بالسياسي اليمني، عبد الرحمن البيضاني (اسمه كده والله)، والذي أوهم السادات بأن التدخل المصري في اليمن سيكون سهلاً ومحدوداً، وبعد أن حدث ما حدث من خسائر مروعة في حرب اليمن، كان عبد الناصر (طبقاً لرواية هيكل) لا يكف عن تذكير السادات بما قاله له. صحيح أن السادات يعترف في مذكراته أنه كان مسؤولاً عن الجانب السياسي في حرب اليمن، إلا أنه يحمّل عبد الحكيم عامر مسؤولية الفشل العسكري، موجهاً له اتهامات خطيرة بأنه قلب الحرب إلى "تجارة ومنفعة، وأصبحت مسرحاً جديداً يثبت عليه عامر أقدامه، وينشر نفوذه، بحيث لا يستطيع أحد أن يزحزحه عن مكانه كمركز القوة الأول في مصر". ويبدو أن كراهية السادات المتحكمة في هيكل أنسته أن محاولة تلبيس السادات مسؤولية حرب اليمن تسيء إلى عبد الناصر في المقام الأول، لأنها تظهره رجلاً غِرّاً مندفعاً، يقوم بإرسال قواته إلى بلد، لمجرد رأي شخص، زعم هيكل بنفسه أنه لم يكن موثوقاً فيه.

قبل أن تتورط مصر في حرب اليمن التي أثرت سلباً على الجيش المصري، على الرغم من كل نياتها الحسنة، وقبل أن تنجح النيات الحسنة نفسها في الإبقاء على الوحدة مع سورية، لتنهار رسمياً في عام 1961، كان عبد الناصر والسادات قد شهدا في عام 1960 تطورات قاسية على المستوى الشخصي، حيث أصيب عبد الناصر بمرض السكر، وأصيب السادات بنوبة قلبية في يوم 15 مايو/أيار، والذي تصادف ارتباطه بتطورات مهمة في حياته بعد ذلك. كان السادات قد تخلى عن وجوده في الاتحاد القومي (أول تنظيمات عبد الناصر الشعبية التي حاول بها إيجاد تنظيم سياسي حاكم، على غرار الأحزاب الشيوعية الحاكمة في الاتحاد السوفيتي والصين، والذي تحول فيما بعد إلى الاتحاد الاشتراكي، ثم في عهد السادات بعد ذلك إلى الحزب الوطني). وذلك بسبب شعور السادات أن عبد الناصر بدأ يأخذ موقفاً منه بسبب "وشايات مغرضة" لم يحدد طبيعتها، لكنه يقول إن عبد الناصر استدعاه بعد شفائه من الأزمة القلبية، ليسأله عن صحة ما كان صلاح سالم يشيعه أن السادات يزعم أن عبد الناصر سبب إصابته بالقلب، لينفي له السادات ذلك بقوة، ويبرّر مرضه بمعاناته من الرطوبة الشديدة في مدينة كوناكري الغينية التي سافر إليها رئيساً لمؤتمر التضامن الآسيوي الأفريقي، فضلا عن "التعب والإرهاق الذي عانى منه قبل الثورة وبعدها"، لتنتهي الأزمة، ويقرر عبد الناصر الإبقاء على السادات رئيساً لمجلس الأمة، بعد انتهاء الوحدة مع سورية.  

"البلد بتحكمها عصابة يا أنور"

بقي السادات رئيساً لمجلس الأمة خلال الفترة العصيبة التي أعقبت الانفصال، وكما يقول هيكل، فقد "كانت أظهر ملامح نشاطه هي الخطبة التي يلقيها كل عام أمام عبد الناصر ليرحب به في المجلس، ويبايعه بالزعامة"، من دون أن يفسر لنا هيكل لماذا وافق عبد الناصر "الزعيم المحنك الملهم" على منح منصب سياسي مهم مثل هذا لشخصٍ لم يكن يفعل شيئاً سوى مبايعته بالزعامة، ولا لماذا لم ينصح هيكل عبد الناصر بأن يختار لهذا المنصب شخصاً فعالاً يساعده على تنشيط الحياة السياسية، خصوصاً أن هيكل، كما يقول لنا في كتبه، لم يكن يكف عن إسداء النصح لعبد الناصر.

مع ذلك، يجب الإشارة إلى أن السادات، في مذكراته، لا يلقي أهمية كثيرة للفترة التي قضاها رئيساً لمجلس الأمة، فهو لا يذكر أي أمثلة على نشاطاته في ذلك المنصب السياسي المهم، مع أنه يذكر بعض نشاطاته خلال توليه منصب رئاسة المؤتمر الإسلامي، كما يخصص صفحاتٍ عديدة لسرد تفاصيل الصراع الشرس بين عبد الناصر وعامر على مقاليد الحكم في البلاد، مؤكدا أنه كان، طوال الوقت، منحازاً لعبد الناصر. وعلى الرغم من أنه يستفيض في شرح الخطايا السياسية التي ارتكبها عامر في ذلك الوقت، ويمعن في وصف استسلام عبد الناصر لسطوة عامر، إلا أنه لا يذكر أنه اعترض على كل ما كان يجري في البلد من مهازل، سوى مرة وحيدة في عام 1966، حين قامت لجنة تصفية الإقطاع التي كان يرأسها عامر، بفرض الحراسة على عدد من عُمَد وأعيان مركز تلا القريب من بلدة السادات ميت أبو الكوم، وحين عرف السادات بذلك في زيارته قريته، أخذ سيارته غاضباً، وعاد إلى القاهرة ليتصل بعبد الحكيم عامر، معبراً عن غضبه من القرار، فما كان من عبد الحكيم إلا أن ألغى القرار، وهو ما يذكره السادات بفخر، قائلا إنه "كان هذا هو القرار الوحيد الذي تراجعت عنه لجنة تصفية الإقطاع في نفس يوم صدوره"، ولأن السادات يتوقع أن تثير تلك الحكاية تساؤلاتٍ في عقل القارئ، حول سر انحيازه فقط لأهل بلدته، نراه يضيف قائلاً إنه "سمع بعد ذلك" قصصاً رهيبة عن ممارسات اللجنة، وقيامها باقتحام البيوت وطرد النساء منها، مع أنه كان، قبلها بعدة صفحات، يتحدث بحرقة عن المظالم التي شهدتها البلد في السنوات التي سبقت هزيمة 1967، بل وصل به الأمر إلى أن يروي كيف ذهب لزيارة عبد الناصر بشكل مفاجئ في فبراير/شباط 1967، فوجد عبد الناصر مهموماً، فقال له: "مالك شايل الدنيا على دماغك، ليه يا جمال"، فقال له عبد الناصر: "يا أنور، البلد بتحكمها عصابة، وأنا مستحيل أكمل بهذا الشكل، والصورة سيئة يا أنور، وأنا حاسس إن احنا داخلين على كارثة".

لكن إحساس عبد الناصر المبكر بالكارثة، لم يمنع وقوعها في 5 يونيو/حزيران 1967. وهنا، يروي لنا السادات رواية عجيبة أخرى، يقول إنها وقعت في يوم 9 يونيو، حين سمع بياناً من القيادة العامة، يقول إن "اليهود قد عبروا إلى الضفة الغربية للقناة"، ففار الدم في عروقه، وارتدى زي المقاومة الشعبية، وأخذ بندقيته ذات التليسكوب، وذهب إلى مجلس الأمة، ليصدر تعليمات لأمينه العام بأن يطلب من النواب ذوي الخلفية العسكرية "أن يجمع كل منهم من مائة إلى مائتي رجل، ليجهزوا لمقاومة الإسرائيليين في المكان الذي أحدّده لهم، ثم ذهبت للقاء عبد الناصر فوجدته جالساً في حجرة مكتبه في بيته بمنشية البكري، فقلت له: انت قاعد هنا مستني إيه، لازم، يا جمال، تقوم عشان نوديك الصعيد، لإننا حنكمل المقاومة من هناك"، فقال له عبد الناصر: "اقعد يا أنور اقعد"، لكن أنور رفض، وقال لعبد الناصر إن "قعاده في القاهرة غلط"، فرد عليه عبد الناصر قائلا "والله إنت مسكين يا أنور، زيك زي الشعب تمام، إنت صدقت البيان، أنا عارف البيانات بتصدر إزاي، دي كلها كلام فارغ"، مضيفا أنه أرسل زكريا محيي الدين، ليتأكد أن الجيش الإسرائيلي لم يعبر إلى الضفة الغربية للقناة. ثم يطلب منه الهدوء، لكي يكتب خطاب التنحي، الذي يقول السادات إنه كان أول من قرأه في مصر، وهو ما تناقضه كل شهادات الذين حضروا هذه الفترة، وتناقض أيضاً حقيقة أن هيكل كان شريكاً لعبد الناصر في كتابة خطاب التنحي، لكن السادات وحده كان له رأي آخر بالطبع. 

إزالة آثار النكد

كانت الفترة التي أعقبت هزيمة 67، أو الكارثة كما يسميها السادات، أو النكسة كما دلّعها هيكل، أخصب فترة في علاقة عبد الناصر والسادات، منذ التقيا أول مرة قبل ثورة يوليو بسنوات، وهو ما لم ينكره هيكل نفسه، حيث يؤكد أن السادات زاد قرباً من عبد الناصر في تلك الأوقات الصعبة، ليصبح بيت السادات في الهرم المكان الوحيد الذي يقضي فيه عبد الناصر أوقاتاً إنسانية لطيفة، وسط ما كان يعانيه من هموم "إزالة آثار العدوان". يحاول هيكل تفسير ذلك بالقول إن السادات كان الوحيد الذي لم يكن يضغط على أعصاب عبد الناصر بإثارة أي مناقشات سياسية أو عسكرية، أي أن السادات، من وجهة نظر هيكل، كان ببساطة "مضحك الملك"، لكن ذلك التفسير لا يبدو مقنعاً على الإطلاق، خصوصاً حين نعرف أنه عندما تعرّض عبد الناصر لأول نوبة قلبية في سبتمبر/أيلول 1969، فإنه لم يختر سوى السادات ليرأس لجنة ترأس شؤون الدولة في أثناء غيابه. صحيح أن اللجنة لم تمارس أي نشاط، لأن عبد الناصر عاد سريعاً لممارسة مهامه، لكن مجرد اختيار السادات ذلك المنصب كان إشارة مهمة إلى توثق علاقته بالسادات بشكل غير عادي.

بعد ذلك بثلاثة شهور، وفي مشهد هزلي يليق بدولة الرجل الأوحد، قرّر عبد الناصر أن يعبر بشكل أكبر عن ثقته الكاملة في السادات، فيعينه نائباً لرئيس الجمهورية. وبالطبع، يحاول هيكل أن يقلل من أهمية هذا القرار، حيث يروي أن عبد الناصر قال له وهما متجهان إلى المغرب، للمشاركة في مؤتمر القمة العربية: "هل تعرف ماذا فعلت اليوم؟"، قبل أن يصدمه بقوله إنه طلب من السادات أن يمر عليه ليصحبه إلى المطار محضراً معه مصحفه. وحين وصل جعله يقسم اليمين الدستورية على أن يكون نائباً للرئيس، وعندما اندهش هيكل الذي لا يخفي شعوره بالصدمة، لأنه لم يعرف مسبقاً بقرار خطير كهذا، وسأل عبد الناصر عن السبب، قال له إنه تلقى برقية عن احتمال تعرضه لمحاولة اغتيال على يد وزير الداخلية المغربي الجنرال أوفقير، بالتعاون مع المخابرات الأميركية، وينقل هيكل عن ناصر أنه قال: "أنور يصلح لسد الفترة الانتقالية، فدوره سيكون شكلياً، وقد واتت الآخرين جميعا الفرصة ليكونوا نوابا للرئيس، إلا أنور، ولعله دوره الآن، وعلى أي حال فهي فترة أسبوع على أرجح الأحوال". وهنا أيضاً لم ينتبه هيكل إلى أنه، من خلال حرصه على التقليل من شأن السادات، يسيء إلى عبد الناصر، حين يصوره وهو يتعامل مع مصير البلد بهذه الاستهانة البالغة، وكأنها "عجلة"، يتم ركوب السلطة فيها بالدور أو البخت والنصيب، كما أن هيكل لم يقل لنا لماذا لم يذكِّر عبد الناصر، بكل الملاحظات السلبية التي سبق أن قال لنا إن عبد الناصر يبديها، مراراً وتكراراً على السادات، ولماذا لم تمنعه تلك الملاحظات التي رواها بشجاعة رجعية الأثر، من أن يساعد السادات على أن يحكم سيطرته على الحكم عام 1971؟.

"الثورات تأكل نفسها يا جمال"

لكن، ما فعله هيكل مع السادات لم يختلف كثيراً مع ما فعله السادات نفسه مع عبد الناصر، في مذكراته "البحث عن الذات" إلى درجة أن من يقرأ فصل "عجز القوة" الذي تحدث فيه عن سنواته في ظل عبد الناصر، يتخيل أنه يقرأ شهادة مكتوبة في معتقل الواحات، على يد معارض تمزّق ظهره من سياط التعذيب، وليست مكتوبة من أحد رموز المرحلة الناصرية، ومن أكثر رفاق عبد الناصر تهليلاً ومباركة وتأييداً، إلى درجة أنه كان الوحيد الذي سلم من أذى عبد الناصر حتى النهاية، فلم ينله أي إبعاد أو تنحية أو غضب أو خصام أو نحر، ربما لأنه تعلم الدرس مبكراً في عام 1953، حين بدأت الصراعات تشتد داخل مجلس قيادة الثورة، فقال لجمال طبقاً لما يرويه: "يا جمال، الثورات تأكل نفسها... فلماذا لا تواجه الزملاء، ويكون واضحاً لدى الجميع أن من يستطيع أن يسير معك يمكن أن يستمر، أما من لا يستطيع فعليه أن يعتزل"، ومع أن كلام السادات كان مليئاً بالود والتأييد، إلا إنه فوجئ بعبد الناصر يقاطعه "محتداً ومحتجاً وغاضباً وساخراً، وكأنني أقف ضده لا معه"، ليقرر السادات، بعد ذلك على ما يبدو، أن يحتفظ بأي اقتراحات أو آراء لنفسه، وأن يكتفي بالتأييد والمديح والمباركة، وهو ما جعله يسلم من كل سوء.

في مذكراته، يتحدث السادات عن هذه النقطة، مشيراً إلى تساؤل وجهه له صحافي أجنبي عن سر كونه الرجل الوحيد من رجال الثورة الذي لم يمسّه أي سوء، وما إذا "كنت لا أساوي شيئاً على الإطلاق، أو أنني كنت خبيثاً غاية الخبث، بحيث تحاشيت الصراع معه"، ومع أن هذا السؤال يمكن أن يرضي كثيرين من مؤيدي السادات الذين يميلون، دائماً، إلى تصويره بمظهر الداهية الماكر الذي لا يستطيع أحد أن يضحك عليه أبداً، وهو بالمناسبة ما تظهر وثائق المفاوضات مع إسرائيل عكسه تماماً، لأن السادات، للأسف، قدم لإسرائيل أكثر ما كانت تحلم به، من دون أن يجد قادتها تفسيراً منطقياً لذلك، لكن السادات، على عكس مؤيديه، لم يتعامل مع هذا الافتراض برضا، بل علّق عليه غاضباً بقوله: "وإن دل هذا التساؤل الساذج على شيء، فإنما يدل على جهل أصحابه بطبيعتي، فلا أنا كنت عديم الصفة في أثناء حياة عبد الناصر، ولا كنت خبيثاً أو لئيماً في حياتي قط"، مؤكداً أنه كان يختلف مع عبد الناصر أحياناً، وتحدث بينهما جفوة "بسبب إيمان عبد الناصر بالتقارير وإصغائه للقيل والقال".

طيب، لماذا، إذن، لم يغضب عبد الناصر من السادات، إذا كان قد اختلف معه، بينما كان يغضب من الآخرين. يقول السادات إن السبب أنه لم يضع نفسه أبداً في موقف الدفاع أمام عبد الناصر، وأنه كان يقابل كل ما يفعله جمال بالحب الخالص من جانبه، "وهذا ما جعلني أعيش مع عبد الناصر 18 سنة دون صراع، لأني لم أكن أريد شيئاً، ولم تكن لي مطالب من أي نوع، وكنت إلى جانبه منتصراً أو مهزوماً، ولعل هذا ما جعل عبد الناصر يلتفت حوله بعد 17 سنة، وينتبه إلى أن هناك إنساناً لم تقم بينه وبينه معركة في يوم ما". والحقيقة أن السادات ينسى، وسط الحالة الدرامية الخالصة التي يبدو أنها كانت تتملكه كثيراً خلال كتابة الكتاب، أن قارئ هذا الكلام العاطفي لن يجد فيما يرويه عن عبد الناصر، طوال المذكرات، حباً خالصاً، بل سيجد حالة من الاتهام الدائم لعبد الناصر، بتخريب البلاد وظلم الشعب، وهو ما يؤكد أن ما ظنه عبد الناصر حباً وإخلاصاً، لم يكن إلا مداهنةً وتزلفاً ومسح جوخ، كان السادات يظنه كافياً لجعله ينجو من المهالك التي نالت زملاءه من قادة الثورة، لكنه لم يتصور أبداً أنها ستوصله ليجلس على مقعد عبد الناصر، ويصبح بدوره كما هو الحال في مصر، هدفاً للمداهنة والتزلف ومسح الجوخ.

نكمل غداً بإذن الله.

 

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.