الزعيمة "هارييت": محاولة صناعة أيقونة نضالية

11 سبتمبر 2020
سينثيا إرّيفو: مواجهة العنصرية بالصلاة والهروب (يوتيوب)
+ الخط -

هذه محطّة سينمائية جديدة عن تاريخ العبيد ونضالهم للتحرّر. فيلم عن ماضٍ دموي، الخوف فيه عدوٌّ للحالمين بالحرية. رسالة لرفع المعنويات في الحاضر. سيرة بطلة سوداء، أنجزته مخرجة سوداء: "هارييت" (2019) لكاسي ليمونز.

أثناء جَلْدها، تدعو هارييت على سيدها، فيُعلّق: "لا يصغي الله إلى صلوات العبيد". تُصلّي هارييت وتدعو، فيموت جلّادها فجأة. حُسم الصراعُ من السماء. يتكرّر هذا: تتلقّى البطلة السوداء "رؤيا ربانية" في كلّ أزمة. هذا يجعل الصراع عمودياً، بين الأرض والسماء، بينما هو صراع أفقي اجتماعي، بين العبيد ومالكيهم. لا يُميّز الله بين البشر بناءً على اللون، لكنّ مجتمعات كثيرة تعتبر اللون عاملاً أساسياً للتمييز.

في منتصف القرن الـ19، كان بيضُ جنوب أميركا يملكون مئات آلاف العبيد. يستغلّونهم ويبيعون أولادهم. لكنّ الزمن بدأ يتغيّر، فما كان طبيعياً، صار فعلاً سياسياً مرفوضاً. لذا، تبكي زوجة الجلّاد، لأنّ عبيدها يفرّون ويقوّضون بفرارهم موقعها الطبقي العالي. تفرّ البطلة إلى الغابات. بسهولةٍ، تقطع المسافة بين موطن العبودية جنوباً ومكان التحرّر شمالاً، كأنّ خصمها مَخاطر دروب الغابة، لا المجتمع العنصري. يقع الصراع الحقيقي في المجتمع، لا في الطبيعة.

حين بدأت حركة الفرار، جُنّ مُلّاك العبيد، فأجبروا مجلس الشيوخ على سنّ قانون استعادة الفارين، ثمّ أعلنوا تأسيس دولة جنوبية تحافظ على العبودية. حركة الفرار من الحقول الجنوبية إلى الشمال سببٌ رئيسيّ لحرب الانفصال في أميركا (1861 ـ 1865)، المنتهية بإعلان أبراهام لينكولن تحرير 4 ملايين عبدٍ.

يظهر هذا المعطى (تحرير العبيد) باهتاً في "هارييت". الموضوع مُعالَج بكثرة في الأدب والسينما. تحتاج الإمبراطوريات إلى عبيدٍ لتُنتج وتتوسّع. هؤلاء يثورون أحياناً، بدءاً من ثورة سبارتاكوس ضد العبودية جنوب الإمبراطورية الرومانية، كما في "سبارتاكوس" (1960) لستانلي كوبريك، وثورة الزنج ضد الإمبراطورية العباسية، وصولاً إلى ثورة العبيد في جنوب أميركا، المُخلّدة في أفلامٍ كثيرة.

 

 

تجري هارييت من أجل حريتها. تنجو بسهولة بفضل نيّتها الحسنة. يخلُّ هذا الاستسهال بالأمانة التاريخية، فلو كان الأمر كذلك، لما بقي إنسانٌ أسود عبداً في الجنوب. لا تلتقط الكاميرا النيّة الحسنة. يحتاج الفرار إلى قوّة وقدرة ومعرفة. تفتقد البطلة هذه الصفات، فهي لا تملك إلّا الإرادة. تردّد "فريدوم"، وتصلّي في كلّ مأزق، فيأتيها الحلّ. تحضر الإرادة الربّانية أكثر من مؤهّلات البطلة في توجيه الأحداث. هكذا تحلّ السماءُ والقدرُ عُقدَ الحبكة. لذا، لم تكن الـ80 دقيقة الأولى درامية، لأنّ مفعول الإرادة مُفتعل ومنفوخ. أثمر ذلك أداءً باهتاً، من دون كاريزما للممثلة سينثيا إرّيفو.

هَيمن الوعي البعدي السعيد للماضي على منظور المخرجة كاسي ليمونز، فصار الفيلم النضالي أشبه بالتزحلق على أرضٍ مسطّحة. اشتغلت ليمونز أيضاً في سلسلة تلفزيونية بعنوان Self Made (مستوحاة من حياة السيّدة سي. جي. واكر، 2020): سيرة بطلة سوداء أخرى، صانعة مستحضرات تجميل. يبدو أنّ الدافع التجاري حاضرٌ في محاولة صنع أيقونة نضالية، لكنْ بصعوبة.

ما الذي يمكن كتابته عن امرأة تجري في الغابة طوال الفيلم؟

تركيبياً، كلّ سيرة (كتاب أو فيلم) تحكي عمراً بكامله تكون مفكّكة، لا حبكة جامعة فيها، لأنّها انتقاء لحظات من عمر الشخصية موضوع السيرة. تجري غالباً مَشاهد في أمكنة وأزمنة مختلفة، والرابط الوحيد بينها وجود البطل نفسه. في حالاتٍ كتلك، يصعب نحت الزمن. لتجنّب ترهّل الزمن، يركّز الفيلم التاريخي الناجح على حدثٍ واحد وزمن واحد، كما في "سبارتاكوس".

بسبب محاولة "هارييت" تغطية زمن طويل، تنقص الكثافة. للإشارة إلى هذا، يُقارَن بأفلام نضال أخرى تناولت منتصف القرن الـ19، وصوّرت وضع السود بعمق في لقطات قليلة، منها "دجانكو غير المُقيّد" (2012) لكوانتن تارنتينو: عن أسود حرّ (جيمي فوكس)، يركب حصاناً للمرّة الأولى في تاريخ أميركا. لقطة تصدم حتى السود، الذين يعتبرون الأسود عبداً والأبيض حرّاً. لتعميق السخرية، يتقمّص دجانكو دور تاجر عبيد أسود. هذا أحقر له، لكنّه مُفيد لفهم الوضع. يزداد غضبه، ويحرّر عبدة تُجلَد لأنّها كسرت بيضة.

لقطة أول زنجي يركب حصاناً، مرتدياً بدلة أنيقة، مزعجة لصاحب المزرعة الجاهل العنصري، مالك العبيد (ليوناردو دي كابريو)، الذي يُجمّل خزانته بروايات الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما، وهو يعرف أنّ الكاتب أسود البشرة. تبدو الدقائق الأولى من "دجانكو" أكثر كثافة من كلّ "هارييت". اكتشفت ثراء "دجانكو" بمُشاهدته مجدّداً لإنجاز هذه المقارنة. ثراء يكشف كلّ موجة الأفلام السريعة التجارية عن السود. منصّات المُشاهدة توفِّر حالياً فرصة غير مسبوقة للمقارنة بين أفلام عن السود، مُنجزة في مراحل مختلفة.

المساهمون