الذاكرة التاريخية تعيق اندماج تتار القرم في روسيا

10 مايو 2016
يحتفلون بالربيع قبل أيام (Getty)
+ الخط -

يصوّر الإعلام والخطاب الرسمي الروسي أنّ ثمّة إجماعاً شبه كامل في شبه جزيرة القرم، على الانضمام إلى روسيا. لكنّ فئة كبيرة متمثلة بتتار القرم، ما زالت ترفض عودة إدارة موسكو التي سبق لها أن هجّرتهم من أرضهم الأصلية قبل أكثر من 70 عاماً.

على الرغم من جعل لغة تتار القرم إحدى اللغات الرسمية في شبه الجزيرة إلى جانب اللغتَين الروسية والأوكرانية، إلا أنّ محاولات موسكو فرض قيادات موالية لها لم تنجح، ولم يشعر نحو 75 في المائة منهم بتغيير نحو الأفضل، بحسب ما أفادت استطلاعات للرأي. وما يزيد من شعور تتار القرم بالتهميش، هو صدور حكم قضائي في الأسبوع الماضي يصنّف "مجلس تتار القرم" الذي يتمتع بنفوذ كبير "منظمة متطرفة"، ويحظر نشاطها الذي وصفه بـ"المعادي" إذ تتعاون قياداتها مع "حزب التحرير الإسلامي" وجماعة "الذئاب الرمادية" اليمينية التركية.

أليكسي مالاشينكو رئيس برنامج "الدين والمجتمع والأمن" في مركز "كارنيغي" في موسكو، يرى في حظر المجلس خطأ من قبل السلطات الروسية التي ترفض أي معارضة. ويقول لـ "العربي الجديد": "هذا خطأ كبير. المجلس كان أفضل من منظمات أخرى قد تعمل في الخفاء. وثمّة تأثير للعامل الإسلامي على الشباب، إذ يُعدّ تتار القرم جزءاً من الأمة الإسلامية". ويستبعد الباحث الروسي "احتمال تأقلم تتار القرم من غير جيل الشباب، مع واقع الحياة ضمن روسيا، نظراً لفقدان الثقة وترسّخ الذاكرة التاريخية والذكريات المتعلقة بقرار موسكو تهجيرهم من أرضهم الأصلية خلال الحرب العالمية الثانية". يضيف أنّ "هؤلاء منزعجون ويخشون من تعرضهم إلى مداهمات أو عمليات تفتيش في أي وقت".

يُعد تتار القرم البالغ عددهم نحو 232 ألف نسمة، نحو 10 في المائة من إجمالي سكان شبه الجزيرة، السكان الأصليين، في حين أنّ مدينة بخشي سراي هي مركزهم التاريخي منذ حقبة خانية القرم في القرن السادس عشر ميلادي. لكنّ ذلك لم يمنع السلطات السوفييتية من تهجيرهم من القرم في مايو/ أيار 1944 بتهمة التعاون مع الاحتلال النازي والخيانة وانشقاق ما يصل إلى 20 ألفاً منهم عن الجيش الأحمر. وفي حين هُجّر أكثر من 150 ألفاً منهم إلى جمهورية أوزبكستان السوفييتية، توزّع عشرات آلاف آخرون على مناطق أخرى في الاتحاد السوفييتي.

أتت عملية التهجير هذه كواحدة من أسرع العمليات من نوعها في التاريخ، إذ استغرقت مرحلتها الأساسية أقلّ من ثلاثة أيام. خلالها، كانت العائلات تُمنح ما بين 15 و20 دقيقة فقط لجمع مقتنياتها، في حين تُحرم أخرى من حملها في بعض الأحيان.

ولأنّ عملية نقلهم تمّت في عربات شحن مغلقة عبر سكك الحديد، قضى خلالها آلاف الأشخاص، أكثرهم من الأطفال والشيوخ من جرّاء إصابتهم بالعطش والتيفوئيد. كذلك، قضى ما بين 20 و46 في المائة من المهجّرين خلال السنوات التي تلت بسبب الجوع والأمراض.

على عكس الشعوب المهجّرة الأخرى التي سرعان ما تمكّنت من العودة إلى أراضيها الأصلية، لم يحصل تتار القرم على حقّ العودة إلا في حقبة البيريسترويكا في عام 1989. وبعدما ضمّت روسيا القرم، وجد هؤلاء أنفسهم تحت قيادة وريثة للدولة التي حرمتهم من الحياة على أرضهم وتسببت لهم في معاناة امتدت لعقود من الزمن.




يؤكد نائب رئيس "مجلس تتار القرم" يإلمي أوميروف أنّ نحو 80 في المائة من تتار القرم يرفضون ضمّ شبه الجزيرة إلى روسيا، لافتاً إلى أنّ الاستفتاء كان "غير مشروع" وتعارض مع الدستور الأوكراني. ويقول في اتصال مع "العربي الجديد" من بخشي سراي: "تهجّرنا من أرضنا الأصلية في عام 1944، وثمّة أغلبية جديدة آتية من خارج القرم نظّمت استفتاء لتقرير المصير". يضيف: "بعد ضمّ القرم، حُرمنا من تنظيم الفعاليات لإحياء ذكرى التهجير في 18 مايو/ أيار. وثمّة أكثر من 20 حالة اختفاء قسري، فيما عُثِر على بعض المختطفين قتلى. إلى ذلك، تُلفّق تهم مثل الإرهاب أو الانتماء إلى حزب التحرير الإسلامي، بينما لم نشهد أموراً مماثلة خلال 23 عاماً في أوكرانيا المستقلة".

عن عدد تتار القرم الذين غادروا شبه الجزيرة بعد الاستفتاء الذي رفضوا المشاركة فيه، يوضح أوميروف أنّ "نحو 17 ألفاً سجّلوا أنفسهم في أوكرانيا، إلا أن بعضهم عاد إلى القرم لاحقاً". ويشير إلى أنهم "لا يتعرضون لمضايقات في الحياة اليومية ولا في عملهم ودراستهم، طالما لا يظهرون عدم الولاء للسلطات الجديدة".

بعد ضمّ القرم، شهدت العلاقات بين السلطات الروسية وقيادات تتار القرم سلسلة من التوترات، إذ مُنع الرئيس السابق لـ"مجلس تتار القرم" مصطفى جميليف من دخول الأراضي الروسية بما فيها القرم حتى عام 2019. كذلك، صودرت كتب تتناول قضية تتار القرم من المكتبات. يُذكر أنّه بعد تعيينه مفوضاً للرئيس الأوكراني لشؤون شعب تتار القرم، كان جميليف من أصحاب مبادرة فرض الحصار الاقتصادي على القرم في عام 2015.

وكانت روسيا قد ضمّت القرم في 18 مارس/ آذار 2014، على خلفية موجة من الاضطرابات وأعمال العنف في أوكرانيا، وبعد موافقة مجلس الاتحاد الروسي على استخدام القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا، وإجراء استفتاء تقرير المصير في شبه الجزيرة ذات الأغلبية الروسية. عدّت أوكرانيا عملية ضمّ القرم احتلالاً وانتهاكاً لوحدة أراضيها، بينما أسفر التصعيد فيها عن أكبر أزمة في العلاقات بين موسكو والغرب منذ انتهاء الحرب الباردة، تمثّلت في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا وقطع الاتصالات العسكرية مع حلف الناتو وتراجع الاتصالات العسكرية إلى أدنى مستوياتها.