الديمقراطية التونسية الناشئة والقوى الغربية
تطرقتُ، في مقالة سابقة، إلى الديمقراطية التونسية الناشئة وإكراهات البيئة التسلطية العربية، وأركز في هذه المقالة على إكراهات البيئة الدولية، وتحديداً الغربية، للنظر في مخاطر الإجهاض الغربي لها، أو، على الأقل، الحد من ديمقراطيتها في بعض الجوانب.
كانت مواقف القوى الغربية حيال الانتفاضة التونسية وفية لسياستها التقليدية. فقد راهنت، حتى اللحظات الأخيرة، على مقاومة النظام للهزات الاجتماعية السياسية، واعتبرتها سحابة اجتماعية عابرة في سماء التسلطية "الصافية". ولم تتخل القوى الغربية عن نظام زين العابدين بن علي، إلاّ عندما تأكد سقوطه، لتتبنى لهجة ديمقراطية واضحة في قطيعة مع المفردات المنتقاة والحذرة التي التزمت بها في الأسابيع الأولى من الانتفاضة في تونس. وقد كان الدور الأميركي حاسماً في اللحظات الأخيرة من رئاسة بن علي، لترتيب الأمور مع الجيش التونسي (تأمين رحيل بن علي وإيجاد منفى له، وتصور لدور الجيش...). جاء هذا الدور متأخراً، لأن الانتفاضة شعبية أساساً، والذي وقع ما كان سيحدث، لولا حدوث تصدع داخل النظام، باتخاذ الجيش التونسي قراره التاريخي، عدم إطلاق النار على المنتفضين. إنها سابقة في التاريخ السياسي العربي المعاصر.
لكن، ما الذي جعل القوى الغربية، العالمة بما هو على سطح الأرض العربية، وما في باطنها تتأخر عن استيعاب ما يحدث في تونس، ناهيك عن انتقال عدواه إلى دول عربية أخرى؟ ولمّا استوعبته لماذا سايرته؟ هناك قناعة لدى قوى غربية بوجود "خصوصية عربية"، فحواها أن العرب ليسوا أهلاً للديمقراطية، أقله في الوقت الراهن، فهم غير ناضجين سياسياً وغير مستعدين للانتقال الديمقراطي. وبالتالي، لهم الأنظمة التي يستحقونها. وربما هناك قناعة أخرى، هي أن نظاماً عربياً يدعمه الغرب لا يمكن أن يسقط رأس هرمه بهذا الشكل، وبهذه السرعة. لكن العامل الفصل هو طبيعة "الثورة" التونسية التي أحدثت تغييراً من الأسفل. وبالتالي، لم تكن لها لا ارتباطات، ولا اتصالات مع قوى خارجية، وبما أن أقطاب المعارضة التونسية، في الداخل والخارج، كانوا خارج عميلة التغيير من الأسفل، لم تكن هناك أدوات في يد القوى الغربية لقياس نبض "الشارع" التونسي سياسياً، خصوصاً أن عفوية الانتفاضة وانتشارها الجغرافي السريع فاجأت الجميع وأربكتهم.
لمّا استوعبت القوى الغربية الوضع، في نهاية الأمر، وتعاملت مع "الثورة" كأمر واقع، لم تحاول إجهاض العملية، ذلك لأنها تيقنت أن "الثورة" سلمية، لا عنف فيها، وأن التيار الإسلامي لا يقودها، ولا يؤثر فيها، كما أن مخاطر الانزلاق الإرهابي غائبة. إنها إحدى أبرز خصوصيات الانتفاضة التونسية. ومن هذا المنظور، يمكن القول إن الانتفاضة التونسية أسقطت مُسلَّمة ملازمة لـ "الخصوصية العربية" أو "الاستثناء العربي" (في المجال الديمقراطي)، وهي مُسلَّمة صعوبة، وربما استحالة، التغيير في العالم العربي من دون عنف. طبعاً، الربيع العربي في نسختيه، المتعثرة والمجهضة، يؤكد صحة هذه المسلَّمة، بيد أن النموذج التونسي شكك في صحتها بقوة، ما جعلها تتدحرج من مسلَّمةٍ إلى (مجرد) فرضية.
لكل هذه الأسباب، زيادة على ضرورة التمظهر بمظهر الداعم للمطلب الديمقراطي، لم تحاول القوى الغربية إجهاض الانتفاضة الشعبية، أو الالتفاف عليها. فضلاً عن ذلك، هناك عامل حاسم ساهم في تحديد المواقف الغربية عموماً، هو طبيعة التغيير على مستوى هرم الدولة الذي أحدثته الانتفاضة التونسية، فالأخيرة، على الرغم من أهميتها لم تحدث، في بدايتها، تغييراً للنظام بل مجرد تغيير داخل النظام، فالسلطة التي حكمت البلاد بعد رحيل بن علي مشكَّلة، أساساً، من طواقم جديدة-قديمة، كما أن ركائز النظام لم تنهَر تماماً. ثم إن القيادة التونسية الجديدة-القديمة التي تسيِّر البلد تحتاج دعم كل القوى الدولية والإقليمية، لإعادة الاستقرار للبلد، سياسياً واقتصادياً، وإنجاح المرحلة الانتقالية. ومع مرور الوقت، تشير تطورات الوضع التونسي إلى تغيير للنظام، وليس فقط مجرد تغيُّرٍ داخل النظام.
من غير المستبعد أن تراهن القوى الغربية على شكل من الديمقراطية المحدودة، والكافية في الوقت في نفسه: ديمقراطية تونسية محدودة، حتى لا تهدد استقرار دول أخرى موالية للقوى الغربية في المنطقة؛ وكافية بحيث تسمح بتهدئة المطالب الشعبية، وإشباع جزء منها. وحول هذه القاعدة، يتفق الغرب والتسلطية العربية.
ويمكن، هنا، الحديث عن خط أحمر من المنظور الغربي في مجال السياسة الخارجية، فلن يسمح للديمقراطية التونسية الناشئة أن تتخذ موقفاً معارضاً لحلفاء القوى الغربية في المنطقة، من عرب وغير العرب. بيد أن أي ديمقراطية حقيقية ستحدد سياستها الخارجية، وفق توجهاتها ومصالحها، وبما أنها تقوم على أساس شرعية محلية، فهي ليست بحاجة للدعم، أو للتزكية الخارجية. وهذا ما سيضع الديمقراطية التونسية الناشئة في امتحان صعب، في علاقاتها مع القوى الغربية. ولا يخفى أن غياب الديمقراطية جعل الأنظمة العربية تقبل تنازلاتٍ، لا يمكن أن تقبلها أي دولة ديمقراطية، مهما كانت درجة ضعفها. ومن هنا، لم يضعف غياب الديمقراطية الموقف التفاوضي للدول العربية فقط، بل جعلها تُقبل على تنازلات استراتيجية، من أجل الحفاظ على الأنظمة القائمة (غلبة أمن النظام على أمن الدولة).
ومن ثم، فإن أحد معايير الحكم على الديمقراطية في العالم العربي هو إعادة صياغة العلاقة مع القوى الغربية، وفق منطق المصالح الوطنية والشعبية للدول العربية، ومفهوم الأمن القومي لكل دولة عربية. وعليه، فمراجعة تونس بعض أسس سياستها الخارجية سيدخلها في تعارضٍ مع قوى غربية حول قضايا إقليمية، وهنا مكمن الخط الأحمر الذي قد تتخذه هذه القوى، لإجهاض الديمقراطية التونسية الناشئة، أو على الأقل لترويضها وتطويعها بشكل تكون ديمقراطية بشكل معقول من منظور غربي، يجعلها متسامحة محلياً، وراعية، أو على الأقل، متفهمة للمصالح الغربية داخلياً وإقليمياً. لذا، ستجد أي حكومة تونسية منتخبة نفسها، بشكل أو بآخر، بين سندان القوى الغربية ومطرقة المطلب الديمقراطي المحلي.