الدولة و"الإخوان" في الأردن

27 فبراير 2015

"الإخوان" في مسيرة في عمّان ضد إسرائيل (9 فبراير/2004/أ.ف.ب)

+ الخط -
بعيداً عن تفاصيل الخلافات الإخوانية-الإخوانية في الأردن، وتداعياتها التنظيمية والسياسية والفكرية، يدرك الكل، بما في ذلك الأطراف المتشاكسة داخل الجماعة، أن بيضة القبان ليست شرعية القيادة الحالية للجماعة، ولا هي بعض أعضائها الناقمين الذين يريدون أن يستولوا عليها بذريعة الإصلاح.
بيضة القبان، وبوضوح وصراحة، هو النظام في الأردن. إن التزم الحياد في الصراع الداخلي على قيادة الجماعة، وَزَعْم طلب إعادة ترخيصها، أردنياً، كما يريد الطرف الناقم المفصول الآن، ووضعها تحت قيادته، سيحسم الأمر لصالح القيادة الحالية، لأنها، ببساطة، القيادة الشرعية، ومعها الأغلبية، اتفقنا معها أم اختلفنا. أما إذا مال النظام لصالح الطرف المتمرد، بحق أو بباطل، فسيرث هذا الطرف قيادة الجماعة وممتلكاتها، غير أنه، طبعاً، لن يتربع على أكثر من لافتة وأطلال وعقارات، وبضع عشرات من الأعضاء الناقمين، لسبب أو لآخر.
موضوعة الشرعية في التنظيم والتفكير والتاريخ الإخواني الطويل شديدة الوطأة والثقل. وقد حاول، في الخمسينيات، جمال عبد الناصر، وفي سنوات ألقه الجماهيري، مصرياً وعربياً، أن يُوقع انقلاباً على قيادة المرشد العام في حينه، المستشار حسن الهضيبي، ولم يفلح. فرغم أن عبد الناصر حاول اختراق الجماعة، وإعادة تشكيلها عبر قيادات تاريخية ووازنة في الجماعة، إلا أن بنية الجماعة التنظيمية أثبتت له، كما ينبغي أن تثبت لغيره اليوم، أنها عصية على التطويع والسيطرة عليها خارجياً. حتى عندما نَكَبَ عبد الناصر الجماعة، في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وبطش بها، لم يتمكن من كسر ممانعتها وقابليتها للحياة، فكانت النتيجة أن أفل ألق الناصرية بعد ذلك، وتنامى ألق "الإخوان"، بغض النظر، بناء على مضمون قيم أم مغشوش، فهذه مسألة نسبية.
التقديم السابق شديد الأهمية، فحجم الصراع داخل الجماعة الإخوانية الأردنية، اليوم، تجاوز قدرة عقلائها على التدارك. ولا أريد، هنا، أن أتورط مع طرف على حساب آخر، أو تحليل خلفيات التوتر بينهما. يعنيني هنا التحذير من أن تتورط الدولة في الأردن في تجريب مجرب ثبت فشله. فآخر ما ينبغي أن يتورط فيه النظام، الآن، أن يعبث بعش دبابير، وهو لا يملك أدوات الوقاية من لسعاتها.
الكناية السابقة ليست عن الإخوان كتنظيم. فالإخوان الأردنيون أثبتوا، ومنذ أربعينيات القرن الماضي، أنهم تنظيم عقلاني وحكيم. والملك الراحل، الحسين بن طلال، لم ينس لهم يوماً أنهم وقفوا معه ضد محاولة انقلابية بعثية يسارية قومية في الخمسينيات. ولم يكن موقفهم، حينئذ، مبدئياً فحسب، بل مصلحياً أيضاً. فمحاولة الانقلاب التي كانت مدعومة من مصر عبد الناصر، لو كتب لها النجاح، لفَتَكَتْ بالإخوان كما فُتِكَ بالتنظيم الأم في مصر، وهذا ما يعيد التأكيد على أن التنظيم الإخواني الأردني راشد وغير انتحاري. وعلى الرغم من علاقات المد والجزر، طوال عقود، في علاقة النظام الأردني والإخوان، فإنها بقيت دائماً ضمن معادلة التعايش التي لم تكن لتنجح، من دون وعي من الطرفين.
صحيح أن الثورات العربية، مطلع عام 2011، وضعت علاقة الطرفين على محك اختبار جديد، خصوصاً مع تصدر كثيرين من شباب الإخوان المشهد، وإعطاء الإخوان الحراكات الشعبية زخماً لا ينكر. غير أنه، ومرة أخرى، لم يذهب الإخوان أبعد من المطالبة بإصلاحات دستورية، مع التأكيد على الحفاظ على مؤسسة العرش مصونة قوية. ومع دخول الثورات
العربية شتاء ساخناً عام 2013، خصوصاً بعد الانقلاب العسكري في مصر، على الرئيس القادم من الإخوان، محمد مرسي، فإن معادلات عربية كثيرة كانت تحاول استرضاء التململ الجماهيري، تغيرت، ولم يكن الأردن بدعاً في ذلك. فضمن أجواء عربية مجرّمة للإخوان، خصوصاً في مصر والسعودية والإمارات، بدأ الأردن يصعّد ضغوطه على الإخوان فيه. وهنا، رأى التيار المعارض في صفوفهم فرصة، ربما لن تلوح مجدداً، للانقضاض على الجماعة من داخلها، بذرائع الإصلاح، وتعنت القيادة الحالية، وعدم كفاءتها.
غير أن الضغوط التي يمارسها النظام على الجماعة، اليوم، بلغت مدى خطيراً. وأصبحت تهدد أمن الأردن نفسه، لا وئام الجماعة ووحدتها فحسب. وهنا، عقلاء النظام مطالبون بأن ينتبهوا إلى أن الثمن الذي يريد متشددون في النظام إيقاعه على الجماعة ستكون له آثار متجاوزة لهم. ويكفي التذكير بأن إيصاد الأبواب في وجه الجماعة، والتلاعب بها داخلياً، سيدفع بها إلى العمل تحت الأرض، وستكون غالبية القواعد معها. الأخطر أن بعض أبنائها المتحمسين والغاضبين قد يرون في ذلك دليلاً على أنه لا أفق للعمل العلني والسلمي، وقد يكون خيار "داعش" جاذباً لهم، ما يحمل تهديدات على أمن الأردن ووئامه.
لو كنت ناصحاً صاحب القرار في الأردن، لقلت له أن لا يفوّض الأجهزة الأمنية قيادة المرحلة الراهنة في العلاقة مع المكونات السياسية في المجتمع. المنطقة على كفِّ عفريت، ولا يعرف أحد من أين ستهب رياح السموم (وهي حتمية). قوة الأردن في وحدته المجتمعية والسياسية. وأن يكون الأردن الرسمي، راغباً أم مضطراً، جزءاً من محور عربي معاد لكل تغيير ديمقراطي، ولكل ما هو "إسلامي حركي"، إقليمياً، شيء، وأن ينقل اشتراطات عضوية ذاك المحور إلى الداخل الأردني شيء آخر. الأردن الرسمي اليوم يحتاج إلى البوصلة نفسها التي كان يستخدمها الملك الحسين في الموازنة بين متطلبات الداخل وضغوط الخارج، وسمحت للأردن، كثيراً، أن يختط مساراً سياسياً مستقلاً (ضمن سياق المصالح الأردنية، كما في علاقته، حينئذ، مع حماس، وفي موقفه من العدوان على العراق مطلع التسعينيات.
ولو كنت ناصحاً المعارضة الأردنية، وتحديداً الإخوان المسلمين، لقلت لهم، إن مؤسسة العرش ثابت في الخطاب والممارسة، والحديث عن إصلاح دستوري لا ينبغي أن يكون غامضاً، بما قد يسمح بتفسيره على أنه محاولة للمس بها. تنبه الإسلاميون في المغرب ممن يقودون الحكومة، اليوم، لهذه المسألة، وتجاوزوا مسألة "إمارة المؤمنين"، فمن يريد العنب لا يَشْغَلُ نفسه بمقارعة الناطور. والواقع يقول، أحببناه أم كرهناه، إن مؤسسة العرش في المغرب ضامن وحدته الجغرافية، ومؤسسة العرش في الأردن ضامن وحدته المجتمعية. هذا واقع يدركه الكل، ويخشى كثيرون الإقرار به.
مصلحة الأردن، الآن، أن يسود فيه التعقل والحكمة من الجميع، وأن لا تُدْفَعَ الأوضاع فيه نحو التفجير.
تغرق المنطقة بفوضى عارمة، والقادم أعظم، وللأسف، لا أحد يملك مشروعاً، أو إمكانية إعمال مشروع للخروج من عنق الزجاجة التي تختنق بها المنطقة، وهذا ليس وقت مزيد من الشعارات الإيديولوجية، أو المواقف الصلبة، هذا أوان الحكمة والقيادة إلى الأمام.
الأردن، اليوم، بحاجة إلى عقد سياسي ومجتمعي جديد، على أساس الشراكة الوطنية، لا السياسية فحسب، يسمح له أن يبحر وسط هذه الأعاصير المدمرة، ومؤسسة العرش هي القادرة على لجم السعار الأمني، مثل ما أنها وحدها القادرة على جمع الكل تحت مظلة الوطن ومن أجل الوطن. وتبييض السجون من المعتقلين السياسيين ستكون بداية جيدة نحو ذاك الهدف، وهي ليست غريبة في تاريخ الأردن الرسمي الذي قام على قاعدة "التسامح"، قناعة أم سياسة، لا يهم، لكنها الحكمة في كل الأحوال.
العقد المجتمعي، أو السياسي، لا يعني أنه لن يكون هناك نظام ومعارضة، بل ستبقى الخلافات قائمة. حديثي عن وضع شروط للعبة، بحيث يكون فيها ثوابت ومحظورات. فمثلاً، مؤسسة العرش ثابت، والمعارضة السياسية ثابت آخر. وجزء من العمل السياسي أن تكون هناك دعوات وضغوط لإجراء إصلاحات قانونية وسياسية واقتصادية ودستورية. ومن المحظور أن يتحول النظام إلى قمع المعارضة المشروعة، ومن غير المقبول أن يتحول حديث إصلاح النظام السياسي في الأردن إلى انقلاب عليه.
مسألة أخيرة، كانت جماعة الإخوان المسلمين دوماً أنموذجاً لمحضن الوئام الهوياتي (الأردني-الفلسطيني تحديداً) والقبلي والجهوي في الأردن، إن تفتَّتت وفشلت التجربة، فالقادم على الأردن أسوأ. فحين تنهار مناعة جسد، انتظر الكارثة.