بالعودة للماضي، فإن مفهوم البطل العظيم، كان كافياً ليجمع حوله التأييد، وكان ذلك البطل، لا يستطيع توفير الحماية لمجتمعه، إلا إذا خاض حربًا، تدرّ المال، وتوحي بالقوة، وتعطي شعورًا بالتفوّق والسيطرة على الأرض، وكان الإنسان حتى يتفوق يَستعبِدُ، ويُستعبَد، وليس هذا ببعيدٍ عن وعينا الحالي، فما زال التاريخ الحديث يُسمّي روما مثلاً: عظيمة.
يستعبِد البطل، الآخر المهزوم، ويترك الآلهة لتستعبده أمام الناس، أما هو، فيحتفظ في داخله بحلم الألوهية، الذي لا يستطيع توفيره له سوى تفوّقه على الوحش المخترَع، والذي يضمن له من جديد، طاعة الناس وولاءهم، دفعهم للضرائب، والتزامهم بقانون ونظام الحكم، من خلال تأمين الأمن على المستويين الاجتماعي والخارجي، اقتصاديًا وسياسيًا.
بحلول القرن الثامن عشر، انحسرت فكرة البطل القائد، وبدأت النُظم الديمقراطية وأفكار مؤسّسات الحكم الجماعي تتعزّز في أوروبا، وبرغم اضطرابات عديدة، إلا أنها استقرت أخيرًا، بعد مقاومات شعبية فكرية وفعلية، بشكل أجبر السلطة على حماية الناس وضمان حرّياتهم واختلافهم وحقوقهم بشكل مقبول، وخصوصًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
بالنسبة لما يُسمى بدول العالم الثالث، ومحيط الشرق الأوسط، فإن مقارنة مستقبلها بماضي تطوّر مفهوم الدولة في أوروربا، لن يسفر عن نتيجة واضحة. ذلك أن مفهوم الدولة لم يتطوّر بشكله العميق، بل إنه ربما توقف في مرحلة غير واضحة المعالم، بين مفهومي الدولة والعصابة، ولا شيء جدير ليعزّز هذا الرأي، بقدر ما نراه اليوم من تجريفٍ للمدن والبشر والبُنى الإنسانية والفكرية في دول كسورية أو ليبيا وغيرها.
يجعلنا هذا نفكر أوّل ما نفكر بمفهوم الحماية والأمن الاجتماعي، الذي لم يرتبط بالوعي وحرّية الشعب في المشرق، بقدر ما كان مرتبطًا بالأمن السياسي والعسكري والظروف الخارجية، وتقديس الحكومات لقوانينها وحاجات أفرادها الحاكمين، وفرض أنظمة ضرائب مرهقة دون جدوى اقتصادية عامة، ممّا حوّل مفهوم الحماية لمعناه التسلّطي العصاباتي.
وتجلّى هذا في الفوضى والعنف اللذين تم وضعهما كبديلٍ عن الاستقرار في حال قامت الشعوب بأيّ تحرّكات فكرية أو فعلية للمطالبة بنظامٍ أمني مبني على الوعي والتطوّر. كما ظلت عملية تفكيك المجتمع لتعدّديات مختلفة طائفيًا أو سياسيًا أو عرقياً، وسيلة مهمة تستخدمها السلطويّات على مدى عقود للمحافظة على دورها كرئيس عصابة، يُدير الصراع لا أكثر.
وتتجلّى إدارة الصراع بمبدأ شرعنة القوّة واستخدامها، إذ يحق لأيّ حكومة أن تستخدم القوة وفقاً لصالحها، وتجعل من أيّة قوّة مقاومة خيانة أو إرهابًا. ويُحيلنا هذا إلى أن منظومات دولية كبرى قد تستخدم هذا المفهوم في سياساتها الخارجية، وتمنعه عن الداخل، فيما في المشرق العربي، يستخدم هذا المفهوم في الداخل تحديداً، وضد مكوّن الدولة الأساسي: الشعب!
للعصابة رؤية للحماية: مبدؤها البلطجة والتخوين، وهي أن تدفع فتَسلم، أو تمتنع فتعاقب، وبمفهومه الأكثر تعقيداً فهو تأمين أساسيات الحياة من استقرار وخدمات، مقابل الضرائب، ويتجلّى مفهوم العصابة إن كان التأمين مصحوبًا بالتهديد الضمني، وفي جعل الحماية مشروعًا تجارياً قابل للكسب فقط ولو من خلال الفتن والحروب، وغير قابل للتقويض أو النقد.
ومن خلال النظر للعلاقة التكافلية بين القوة العسكرية والسلطة، يمكننا فهم دور الدولة الذي يتمحور حول صناعة الحرب للقضاء على منافسين وأعداء خارجيين، وحماية الدولة بحيث يتمّ تحييد أيّ خصوم داخليين، والحماية، وهي الأهم، تعني تفضيل الدولة لطبقة تجارية أو دينية وحماية مصالحها والقضاء على أعدائها ما دامت تخدم توجهات بقاء السلطة، أما عدا ذلك، فإن الجهة المحمية يمكن أن تتبدّل حتى لو كانت فئة كاملة من الشعب، في حال سعت لتقويض السلطة.
هذا الذي ما زلنا نرفل فيه في مشرقنا على العموم، مع دول لا تتبنى علاقة تضمن مصالحها مع ضمان حرّية ومصالح شعوبها. لا يتطلع هذا المقال للهدم، بقدر ما يتطلع لمحاولة نفض الرّكام، بدءًا بما هو متوفّر حاليًا على أرض الواقع، وهذا إن وجد.