يُذكِّرني ما حدث أمس بما قمنا به كبشر قديماً.
يُقال إن المعاقين وذوي العاهات كانوا يُقتلون حال ولادتهم، أو عند اكتشاف إعاقاتهم أثناء طفولتهم. حدث هذا في إسبرطة منذ مئات السنين، وفي مدن يونانية مختلفة، وفي بلاد العرب قبل الإسلام، وفي مناطق أخرى عديدة.
لكننا في مصر لا بُد وأن نعلو فوق الجميع، قتل الأطفال ليس عملاً صعباً، بل قتل البالغين هو الأكثر صعوبة. اليوم حيواتنا هيِّنة كحيوات الحشرات تماماً.
في الأمس فقط قُتلت سيدة في طلعت حرب، كانت تقف تحمل إكليلاً من الورود، بدا لأول وهلة أن الشرطة قتلتها بطلقة خرطوش. لكن مع الوقت أخذت الأذرع الإعلامية تنشر ادعاءات تحاول إلصاق التهمة بآخرين. مثلًا: الإخوان قتلوها، المندسين فعلوا ذلك، أطلقوا النار عليها من الخلف. وأمسك "مؤيديو الدولة" بأول الخيط وأخذوا يضفرونه حبلاً هائلاً. ولم تعد مسألة القتل مهمَّة، بل أكَّد الجميع أن الدولة أهم من كل ما يحدث.
في مصر، الناس أبناء الدولة، نعاني دائماً من بيروقراطيتها وتحكُّمها في كل شيء، لكننا مع ذلك لا نفكِّر مطلقاً في التخلُّص منها أو حتى في تقويمها، واليوم ازداد الأمر سوءاً، أصبحنا على يقين أن الدماء التي تروي شجرة الدولة حلال، قرابين جديدة لا نقدمها إلى النيل كأسلافنا، بل إلى الدولة المصرية.
نظن جميعاً أن الدولة المصرية ليست كياناً اعتبارياً، بل كائنٌ يتنفَّسُ ويتحرَّك، حيٌّ وبحاجة إلى الغذاء والدواء، ويعتقد الكثيرون أن الدولة المصرية ستقف أمام الله في الآخرة ليحاسبها كما سيحاسبنا، وربما ضحَّينا وتنازلنا عن حسناتنا لنضعها فوق حسناتها، كي يتجاوز الله عن جرائمها في حقنا. نعم، نحن نحب الدولة، وسنهتف يوم القيامة: تحيا مصر.
بعد أربع سنوات مما حدث في 2011 أجد نفسي منساقاً إلى التفكير فيما بعد الموت، حجم الظلم الواقع علينا كان هائلاً، تحوَّلنا إلى جماعات واختفت الفردية تماماً، وصار الانتماء السياسي عاراً أو مجداً لصاحبه. وفي بعض الأحيان سبباً لإطلاق الرصاص، وسبباً لتلقي اللعنات بعد الموت.
لكن الخوف الآن ليس من الموت، ربما يكون الموت راحة لنا من كل هذا، كل ما أخافه أن نكتشف أن ما فعلنا كان خطأً، وأن الله يقف في صف الدولة المصرية حقاً، وأننا لن نأخذ من حسناتنا لنضعها في كفة الدولة المصرية، بل هي ستتمنَّع - كعادتها في الدنيا - عن التنازل عن أي من حسناتها، وستقرر أن تدخل الجنة مزهوَّة مختالة. بينما نقف نحن في الجحيم.
وهكذا تُقفل الدائرة وينتهي كل جدل. نعم، نحن نقف في الجانب الخطأ. نعم، الدولة المصرية على صواب. نعم، يجب علينا التضحية من أجل استمرارها. نعم، ما يحدث عدل، ومفهومنا عن العدل معكوس، نحن أغبياء.
ربما علينا أن نخرج من دائرة الحرية الضيقة، إلى فضاء الاستبداد الرحب. وأن نتنازل عن أفكارنا المشوَّهة ونمشي مع زملائنا المواطنين في طريق العجز الجميل. آملين أن ندخل الجنَّة في النهاية، ونسكن شقةً صغيرةً من حجرتين، وشرفة تطلّ على قصر الدولة المصرية الفخم.
* روائي من مصر