تنتهي المشكلة بالاتفاق على تحكيم صيدلي مشهور بين الطرفين، بعد إحضار "وصفة" الدكتور والعلاج الذي اشتراه المريض من إحدى الصيدليات في منطقة على أطراف العاصمة. لا يستغرق الامر سوى نظرة واحدة حتى يحكم الصيدلي المخضرم، علاء الصفار، بأن العلاج مغشوش وأن المضاعفات الصحية ناجمة عنه ومن الممكن أن تتطور إلى الوفاة في حال الاستمرار بتناوله.
الهندي والإيراني
"العربي الجديد" قامت بجولة في بغداد لرصد سوق الدواء، تبيّن منها أن الأدوية الهندية والإيرانية، زهيدة الثمن، تغرق صيدليات العراق وتعدّ الأكثر مبيعاً والأقل فاعلية، بحسب صيادلة ومرضى التقتهم الجريدة، تليها الأدوية السورية ثم المصرية، وهي الأدوية التي تقع في منتصف قائمة الادوية الأكثر مبيعاً وفاعلية، وتتصدّر قائمة الأدوية الفعالة والأعلى ثمناً الأدوية السعودية والإماراتية والإنجليزية وأخيراً الألمانية.
بالعودة إلى الصيدلي الصفار، نجده يؤكد أن المهن الطبية في العراق مهددة أصلاً بالمخاطر الأمنية مثل الخطف والقتل وأضيف لها في الآونة الاخيرة الاعتداء عليهم من قبل المرضى على خلفية صرف الأدوية المغشوشة أو التشخيص العلاجي الخاطئ.
يبيّن الصفار، لـ"العربي الجديد"، أن غش الأدوية أصبح تجارة واسعة تُديرها مافيا متخصصة تعمل في حلقات منتظمة تبدأ من اختيار أنواع الأدوية الأكثر رواجاً في السوق وإرسال نماذج منها إلى مصانع متخصصة بتقليد المنتجات الاصلية، والتي غالباً ما تكون في الصين أو الهند، لتتم صناعة الكمية المتفق عليها، وهنا يأتي دور الحلقة الثانية التي تتولى إدخالها عبر الحدود، سواء بإخفائها في حاويات مخصصة لبضائع أخرى أو بالاتفاق مع عناصر في إدارة المنفذ الحدودي، لتنقل بعدها إلى مخازن في أطراف نائية من العاصمة بغداد تمهيداً لتوزيعها على صيدليات مغمورة.
كيف تهرّب الأدوية المغشوشة؟
للإجابة عن سؤال كيف تدخل الادوية المغشوشة إلى العراق؟ التقت "العربي الجديد" ضابطاً في الجيش العراقي يعمل ضمن القوات المسؤولة عن تأمين منفذ "طريبيل" الحدودي مع الأردن منذ 5 أعوام. للإدلاء بشهادته، أصرّ الضابط على عدم ذكر اسمه قائلاً: "الحكومة العراقية ووزارة الصحة على علم ودراية تامة بدخول أدوية فاسدة من المنافذ الحدودية".
"الرشوة المتفشية في جميع المرافق الحكومية وراء الامر" يضيف الضابط، الذي يشغل رتبة عقيد: "غالبية الضباط والمنتسبين في المنافذ الحدودية يتلقون رشى، وبعضهم يصل مدخولهم الشهري من تلك الرشى إلى نحو 50000 دولار شهرياً". وأوضح الضابط أن معظم الضباط والعاملين في المنافذ الحدودية يدفعون مبالغ لمَن هم أعلى منهم أو لمَن عيّنهم فيها قائلاً: "الجميع دفعوا رشى لأجل الالتحاق بهذه الأماكن"، ويتابع: "بالنسبة لي، دفعت مبلغاً كبيراً لأجل نقلي إلى طريبيل، حينها تمكنت خلال أقل من سنة واحدة فقط من استيفاء مبالغ من التجار تفوق ما دفعته رشوة"، ويعترف بأنهم على دراية بغش الأدوية بالقول: "نعلم جيداً أن الكثير من شحنات الادوية فاسدة ومنتهية الصلاحية، لذلك نستوفي مبالغ رشوة عالية مقابل السماح بدخولها، لأني إن لم أسمح بدخولها فسأُنقل ويؤتى بضابط آخر".
فحص الدواء
للتخفيف من المشكلة المتفاقمة، يطالب الدكتور سالم الربيعي جميع مرضاه بالعودة إليه بعد شراء الادوية من أجل التأكد من جودتها وصلاحيتها، ويعرض أمامنا أنواعاً أصلية وأخرى مغشوشة من أدوية الفشل الكلوي وقرحة المعدة، ويطالبنا بإيجاد الفروقات بينها، وهي مهمة تبدو مستحيلة للشخص العادي، ولكن الربيعي يحصي أكثر من 5 فروقات واضحة على العلبة الخارجية والتغليف الداخلي للدواء.
ورغم جدوله المزدحم، فإن الدكتور ضياء العبايجي وافق على استقبالنا في مكتبه بمنطقة الكرادة ببغداد حيث يعمل بصفة مستشار علمي لواحدة من أكبر شركات استيراد الادوية في العراق، يشخّص مشكلة الأدوية المغشوشة من زاوية الأرباح التي لا تقل عن مليار دولار سنوياً، وهي تشكل نسبة واحد على خمسة من إجمالي التداول في القطاع الدوائي بالعراق والبالغ خمسة مليارات دولار في السنة الماضية. وفي خطوة تعتبر الاولى من نوعها، أقدم الدكتور العبايجي على تأسيس موقع الكتروني متخصص بكشف الأدوية المغشوشة التي تستخدم في العراق من خلال نشر صور وإرشادات كتابية مبسّطة تمكّن المستهلك من تمييز الدواء الاصلي من المغشوش، وهي فكرة لاقت استحسان آلاف المرضى الذين أصبحوا متصفحين دائمين لموقع الدكتور العبايجي.
اضطر العبايجي إلى إدخال تعديل جذري على عمل موقعه بعدما اعتمده المزورون كمرجع في إدخال التعديلات على بضاعتهم المغشوشة وأصبحوا يقلّصون الفوارق بين بضاعتهم المميتة والأصلية بالاعتماد على الصور والإرشادات المنشورة بالموقع الذي أخذ مؤسسه يعتمد أكثر على المراسلات الشخصية مع المرضى بدل النشر.
القانون والدواء
مع أن القانون العراقي يتعامل بحزم مع تجارة الادوية المغشوشة والصيادلة الوهميين، الإ أن مسيرة المحامية إيمان البلدواي الممتدة لأكثر من 20 عاماً بالمحاكم العراقية، خلت من أي دعوى قضائية بهذا الخصوص، لأن المتضررين لا يتحملون تكاليف المحامي المادية ولا يطيقون الانتظار وحضور مرافعات قضائية قد تستغرق عدة أشهر ويفضلون القبول بالتعويض المادي من أصحاب الصيدليات والاطباء. وتستشهد البلدواي بالمادة رقم 50 من فصل العقوبات في قانون مزاولة مهنة الصيدلة في العراق والتي تنص على الحبس لمدة ثلاث سنوات أو غرامة المالية لكل "مَن غش أو قلّد أحد الادوية أو المستحضرات الطبية أو المواد الكيمياوية أو باع شيئاً منها مغشوشاً أو مقلّداً"، والحال ينطبق على كل "مَن باع دواءً أو مستحضراً كيميائياً أو نباتياً فاسداً أو تالفاً".
وتضيف أن العقوبة ذاتها تطبّق بحق كل مَن " صنع أحد الادوية أو المستحضرات الطبية بدون إجازة" أو "زاول مهنة الصيدلة بدون إجازة أو حصل على إجازة بفتح محل بطريقة التحايل" و"كل صيدلي يسمح لشخص غير مجاز بمزاولة المهنة باسمه في الصيدلية".
من جهته، يؤكد نائب نقيب الصيادلة العراقيين، جليل حسين، أن المشكلة ليست في الصيدليات الرسمية، لأنها تتعامل مع شركات رصينة ومجازة وتخضع لمعايير الجودة، متهماً الصيدليات العشوائية المنتشرة في المناطق الشعبية والنائية وباعة الرصيف بأنهم المصدر الاكبر لبضاعة الادوية المغشوشة، بينما يذهب الموظف السابق في وزارة الصحة، عدنان عيسى البياتي، إلى أن أصل المشكلة مرتبط بالتغيير الجذري الذي حصل على نظام الاستيراد وتجهيز الادوية في العراق بعد الغزو الاميركي عام 2003، والتساهل الحاصل في هذا المجال الذي أدى إلى قيام أكثر من 100 شركة بالاستيراد، ووصل بها الحال الى تجهيز وزارة الصحة ذاتها.
فوضى!
مثلما يتبادل المريض والصيدلي وصاحب شركة الادوية الاتهامات عن المسؤولية في توسّع ظاهرة الأدوية المغشوشة، فإن أبو أحلام، مندوب المبيعات بشركة (م . ك. ر) بمنطقة المنصور في العاصمة بغداد، يؤكد أن الاطباء الفاسدين يتحمّلون جزءاً غير قليل من هذه المسؤولية بعدما أخذوا يتقاضون عمولات منتظمة من شركات الادوية مقابل الترويج لمنتجاتهم، وبغض النظر عن فاعليتها أو صلاحيتها الزمنية.
"طلبات الاطباء كانت تقتصر على العمولات المالية الثابتة من نسبة الكميات التي يقومون بالترويج لها بين مرضاهم، ولكنها تطورت أخيراً"، يقول المندوب، لافتاً إلى أن الطلبات أخذت بالتطور والغرابة، منها أن أحد أطباء الأنف والاذن والحنجرة اشترط على الشركة تأثيث منزله الجديد، فيما طلب دكتور أمراض قلبية أن تقوم الشركة بالتكفّل بجميع مصاريف سفره إلى لندن"، ويتدخل في الحديث زميله الذي يعمل في الشركة ذاتها بصفة "مندوب علمي"، ويؤكد أنه يعرف معظم هؤلاء الاطباء منذ أن كانوا مغمورين، موضحاً بأن أحدهم لديه مجموعة كومبارس بعيادته يقومون بأداء أدوار المرضى للترويج للدكتور في أوساط المرضى، ويشدد "المندوب العلمي" على أن الدكتور الذي يقوم بخداع مرضاه بهذا الشكل، لن يتورع إطلاقاً عن الترويج لدواء مغشوش أو مجهول المصدر.
مناطق القتال
تعاني المحافظات العراقية الملتهبة من شح الدواء، حتى أن ناصر الجميلي، أحد سكان محافظة الأنبار، يقول لـ"العربي الجديد"، إن عليهم الذهاب إلى بغداد أو توصية سائقي السيارات لشراء دواء لهم من بغداد، حديث الجميلي أكده مسؤول في مخازن الأدوية بوزارة الصحة العراقية، رفض الكشف عن اسمه، قائلاً: "لن يخاطر أحد بحياته للوصول بالأدوية إلى محافظة الأنبار، وهناك منفذ وحيد لتوصيل الأدوية من بغداد إلى الأنبار، حيث تقوم وزارة الصحة بإرسال ما تيسّر من الدواء إلى مناطق قريبة من حدود المحافظة لتتسلّمها دائرة صحة الأنبار، وهو ما ينطبق على محافظة الموصل ومناطق واسعة من محافظة صلاح الدين التي يعاني أهلها من فقدان الدواء".