20 نوفمبر 2024
الدراما بين الترويح والتسييس والتسطيح
ورد في مسلسل "الاختيار"، المعروض في الفضائيات المصرية في شهر رمضان الجاري، والذي يتعرّض إلى مقارنة ضمنية بين الضابط الشهيد، أحمد المنسي، والضابط المنشقّ المتطرّف، هشام عشماوي، الذي أُعدِمَ أخيراٍ، مشهد أثار جدلاً واسعاً في الفضاء الافتراضي، حينما جاءت على لسان أحد أطرافه فتوى قديمة للإمام أحمد بن تيمية معروفة بـ"التترّس"، صوّره وكأنه إمام التكفير والإرهاب، وهو ما احتفى به بعضهم من "التنويريين" إيّاهم، مبدين ابتهاجهم بمحتواه.
بداية تتعيّن الإشارة إلى أن الأعمال الفنية كانت، خلال العقود الماضية، إحدى ساحات المواجهة بين الإسلاميين وخصومهم في مصر، فقد خرجت غالبية المسلسلات الدرامية والأفلام السينمائية بصيغة أقرب إلى تصفية حسابات أيديولوجية وتاريخية مع الإسلاميين، عبر خروجها عن حدّ العقلانية وجنوحها نحو رسم صورة نمطية، حملت قدراً كبيراً من الذمّ بالحقّ وبالباطل، حيث افتقدت غالبية تلك الأعمال للحدّ الأدنى من الموضوعية، بعدما وضعتهم جميعاً في سلّة واحدة، وكتلة مصمتة صمّاء، من دون فروق تُذكر فيما بينهم، وازدادت قتامة تلك الصورة في فترات الصدام المتعدّدة بين الدولة والإسلاميين.
أمّا ما ورد في المشهد المثير للجدل فلم يخرج عن ذلك الإطار، حيث هدف إلى ترسيخ صورة
اختزالية عن شخصية علمية تاريخية بوزن ابن تيمية، جاءت أقرب إلى إصدار حُكم باتّ قاطع بـ"شيطنته"، والإقرار على أنه أحد روافد التطرّف والتكفير، وهو أمر من التسطيح والاختزال بمكان. والمشكلة ليست في مدى درجة شدّ النكير، بقدر ما هي في مستوى الركاكة، فلم يحرص القائمون على العمل على محاولة إخراج المشهد بقدرٍ من الاحترافية والرصانة العلمية، عبر طرح فاصل حواري في صورة نقاش أو سجال مطوّل بين أطرافه، أو بذل جهد أكبر للتوثيق الفقهي والبحثي لتفكيك العلاقة بين ابن تيمية والأساس الشرعي للتنظيمات الجهادية، لكشف مدى فساد تأويلها وعوار استدلالها الذي تقوم عليه، لكنهم استسلموا للكسل، وأخرجوه بتلك الصورة البائسة.
يعدّ ابن تيمية شخصية جدلية بامتياز، اختلف الناس حولها بين إعلاء وإهواء، وقد تصدّى باحثون قليلون لتقييم الرجل بنظرة موضوعية من دون غلوّ أو شطط، في مقدمتهم العالِم الأزهري الجليل محمد أبو زهرة (من أعلام مدرسة التجديد الحضاري) الذي ألّف كتاباً عن ابن تيمية، ضمن سلسلة كتب له عن كبار الأئمّة في التاريخ الإسلامي، وقد تحدّث فيه عن ابن تيمية وظروف عصره ومدى انعكاسها على آرائه الفقهية فقال: "وقد تبيّن أن عصر ابن تيمية كان يموج بالاضطراب السياسي، والمنازعات الحربية، كما كان يسوده التقليد والاتّباع.. وما من رأي ارتآه أو فكرة دوّنها، إلا كانت في وسط تلك المعارك أو صدىً لها. ومن أجل هذا جاءت رسائله حارّة شديدة العبارة قويّة المنزع، لأنها نشأت في معركة، فكأنّها السلاح يقعقع، والرماح تتشابك، والسيوف تشتجر، وإن كانت تلك الحدّة قد لازمته، فإنها قد لازمها أمر آخر هو الوضوح والاسترسال".
من جهة أخرى، يحمل ذلك التصوّر طرحاً "مُريحاً" عن جذور التطرّف والإرهاب، يردّده "التنويريون" إيّاهم بإحالة المشكلة برمّتها إلى التراث الفقهي القديم الذي طالما أنحى عليه أرباب التنوير باللائمة، باعتباره منبع التطرّف، ليصير ابن تيمية، أو ابن حنبل، أو حتى البخاري، بمثابة الأبّ الروحي لجماعات التكفير والإرهاب، من القاعدة إلى داعش، حتى وصل الأمر إلى تلك الحملة الشعواء التي تهبّ، بين حينٍ وآخر، مستهدفة الأزهر، باعتباره معقل الجمود والتطرّف وتفريخ الإرهاب (!)، مع الإغفال الكامل للعوامل الواقعية التي تضافرت لتشكيل بيئةٍ منتجةٍ للتطرّف، حيث أن تلك النصوص الفقهية تعود إلى قرون خلت، فلماذا إذاً يظهر التطرّف في مراحل تاريخية؟ ولماذا يتراجع الإرهاب في فترات أخرى؟
منذ ظهور الجماعات التكفيرية المُتطرّفة التي اتخذّت العنف منهجاً وسبيلاً، ومارست القتل
والإرهاب، تعددّت الأرضية الشرعية والفكرية التي تقف عليها، فتارّة تستند إلى فتاوى قديمة أُخرجت من سياقها الزماني والمكاني، ووُضعت في غير موضعها، بعد إخضاعها لتأويلات مُتعسّفة، واستدلالات فاسدة إجمالاً وتفصيلاً، وتارّة تستند إلى مبدأ "الحاكمية" استنبطت منها تكفير الأنظمة الحاكمة ووجوب قتالها، وثالثة إلى جاهلية المجتمعات وابتعادها عن صحيح الدين، إلى آخر تلك المزاعم الفاسدة، بيْد أن جذور العنف تعود بالأساس إلى مظالم سياسية واجتماعية، مع العجز عن تغييرها بالطرق السلمية، فحاول بعضهم أن يؤصّل العنف بأن يضفي عليه غطاءً شرعياً واهياً، أو زيّاً أيديولجياً مهترئاً، لا يمكن أن يصمد أمام أدنى نقاش علمي رصين، بل أثبت الواقع أن كثيرين من الذين أشهروا السلاح في وجه مجتمعاتهم، و مارسوا العنف والإرهاب، كانوا على درجة كبيرة من الجهل بأبسط الأمور الشرعية.
للفنّ دور في توعية جموع الناس، لا سيّما في مجتمعات ترتفع فيها نسبة الأميّة، وتحتلّ الشاشة فيها الصدارة، ولكن نجاح الرسالة الفنّية يظل مرهوناً بتوفر المصداقية، القائمة على تقديم صورة موضوعية، تبتعد قدر الإمكان عن التشويه أو المعلومات المغلوطة، لأن من شأن هذا الأمر أن يأتي بنقيض مقصده، عبر تبنّي الطرف الآخر رواية مغايرة تتغلّب فيها الأوهام على الحقائق، فتكون المحصّلة أننا أطلنا زمن العلّة ولم نداوها.
أمّا ما ورد في المشهد المثير للجدل فلم يخرج عن ذلك الإطار، حيث هدف إلى ترسيخ صورة
يعدّ ابن تيمية شخصية جدلية بامتياز، اختلف الناس حولها بين إعلاء وإهواء، وقد تصدّى باحثون قليلون لتقييم الرجل بنظرة موضوعية من دون غلوّ أو شطط، في مقدمتهم العالِم الأزهري الجليل محمد أبو زهرة (من أعلام مدرسة التجديد الحضاري) الذي ألّف كتاباً عن ابن تيمية، ضمن سلسلة كتب له عن كبار الأئمّة في التاريخ الإسلامي، وقد تحدّث فيه عن ابن تيمية وظروف عصره ومدى انعكاسها على آرائه الفقهية فقال: "وقد تبيّن أن عصر ابن تيمية كان يموج بالاضطراب السياسي، والمنازعات الحربية، كما كان يسوده التقليد والاتّباع.. وما من رأي ارتآه أو فكرة دوّنها، إلا كانت في وسط تلك المعارك أو صدىً لها. ومن أجل هذا جاءت رسائله حارّة شديدة العبارة قويّة المنزع، لأنها نشأت في معركة، فكأنّها السلاح يقعقع، والرماح تتشابك، والسيوف تشتجر، وإن كانت تلك الحدّة قد لازمته، فإنها قد لازمها أمر آخر هو الوضوح والاسترسال".
من جهة أخرى، يحمل ذلك التصوّر طرحاً "مُريحاً" عن جذور التطرّف والإرهاب، يردّده "التنويريون" إيّاهم بإحالة المشكلة برمّتها إلى التراث الفقهي القديم الذي طالما أنحى عليه أرباب التنوير باللائمة، باعتباره منبع التطرّف، ليصير ابن تيمية، أو ابن حنبل، أو حتى البخاري، بمثابة الأبّ الروحي لجماعات التكفير والإرهاب، من القاعدة إلى داعش، حتى وصل الأمر إلى تلك الحملة الشعواء التي تهبّ، بين حينٍ وآخر، مستهدفة الأزهر، باعتباره معقل الجمود والتطرّف وتفريخ الإرهاب (!)، مع الإغفال الكامل للعوامل الواقعية التي تضافرت لتشكيل بيئةٍ منتجةٍ للتطرّف، حيث أن تلك النصوص الفقهية تعود إلى قرون خلت، فلماذا إذاً يظهر التطرّف في مراحل تاريخية؟ ولماذا يتراجع الإرهاب في فترات أخرى؟
منذ ظهور الجماعات التكفيرية المُتطرّفة التي اتخذّت العنف منهجاً وسبيلاً، ومارست القتل
للفنّ دور في توعية جموع الناس، لا سيّما في مجتمعات ترتفع فيها نسبة الأميّة، وتحتلّ الشاشة فيها الصدارة، ولكن نجاح الرسالة الفنّية يظل مرهوناً بتوفر المصداقية، القائمة على تقديم صورة موضوعية، تبتعد قدر الإمكان عن التشويه أو المعلومات المغلوطة، لأن من شأن هذا الأمر أن يأتي بنقيض مقصده، عبر تبنّي الطرف الآخر رواية مغايرة تتغلّب فيها الأوهام على الحقائق، فتكون المحصّلة أننا أطلنا زمن العلّة ولم نداوها.