الداعشيّات الغربيّات.. البحث عن الإيمان والبطولة و"الرومانسية"
"وصلتُ، أخيراً، إلى جنوب تركيا. سأغلق حسابي. غداً أدخل دار الإسلام. سامحوني، أدعو الله أن يتقبّل هجرتي". بهذه التغريدة، مترجمة من الانكليزية، أعلنت فتاة بريطانية لأصدقائها وأقاربها قطيعتها معهم، وفصلت نفسها عن عالم عاشت فيه ستة وعشرين عاماً، لتدخل "دار الإسلام"، عالم "دولة الخلافة".
الأغلبية العظمى لا تفهم دوافعهنّ، في الغرب وفي الشرق. لماذا تتخلّى بريطانيات، وأوروبيات وغربيات بشكل عام، عن جوازات سفر يحلم بها الملايين في العالم، للذهاب إلى المجهول؟ لماذا يتخلّين عن الحضارة والأمان والخدمات والحرّيات، وكل التسهيلات الموجودة في دولٍ مستقرة، للذهاب إلى أرض حربٍ، تبدو كأنّها تعود بالزمن إلى العصور الوسطى؟ لماذا، كامرأة، تتخلّى عن كل المكتسبات التي يمنحها إياها القانون الغربي، للذهاب إلى أرضٍ تفرض عليها النقاب الكامل، تتزوّج بمقاتل، فتترمّل، فتـُزوّج إلى مقاتلٍ آخر، وهكذا دواليك؟
لا أدّعي أنني أفهم الدوافع كاملة، ولا كل الأسباب. ولكن، بمتابعاتي الإلكترونية لعددٍ من الحسابات، وجدت أنّهنّ هنّ، أيضاً، لا يفهمن استغرابنا. فنحن وهنّ، ببساطة، نعيش في عالمين متوازيين، نلتقي اعتراضياً في الساحات العامة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لا هنّ يؤمنّ بإعلامنا وبتقاريرنا عن تنظيم داعش، ولا نحن نؤمن بإعلامه. لكن، هنّ يؤمنّ به. وهذا كافٍ لآلاف في العالم للانضمام إلى التنظيم. فما هو الخطاب الذي يوجّهه التنظيم للنساء، خصوصاً الغربيات، ليتركن كلّ ما لديهنّ ويهاجرن، على نفقتهنّ في أغلب الوقت، إلى حياة غير واضحة المعالم في "دولة الخلافة"؟
إذا نظرنا في الخطاب الداعشي لتجنيد النساء، لا نراه واحداً. بل يكاد يظهر بوضوح تام، أن إعلام التنظيم صنّف المجنّدات المحتملات إلى عدّة فئات. للعربية بشكل عام خطابٌ يختلف تماماً عن الغربية. في التالي، أركّز فقط على الإعلام الداعشي الموجّه للغربيات فقط. سواءً كانت رومانسية مغامرة حالمة، أم مناضلة لحقوق المرأة، أم ببساطة مؤمنة متمسّكة بإسلامها، فالتنظيم يخاطبها بالمنطق والحجج، وبالغزل أيضاً.
"وراء كل فارس انغماسي امرأة مؤمنة"
لعلّ الخطاب الرومانسي للتنظيم هو موضوع سخرية كثيرة من مناهضيه. بين حين وآخر، نجد موجةً من صور المقاتلين مع القطط، وللحيوانات الأليفة، يتناقلها عديدون ساخرين، من هذه المفارقة في الحنّية. لكنّ هذه الحنّية تلقى نجاحاً في صفوف فتيات غربيات عديدات، حتّى غير المسلمات، وليس من باب حبّ الحيوانات الأليفة، بل حبّاً لفكرة الرجل المقاتل المغوار، الفارس الجبّار، الذي يعود منهكاً من ساحة المعركة، ليتحوّل إلى طفل صغير في منزله، يلاعب الحيوانات الأليفة، وينتظر لقمةً شهية من زوجته، المؤمنة الصبورة التي تحفّزه على الدفاع عن "الدولة"، وتصوّب إيمانه حين يتردّد. هكذا يصوّر التنظيم الرومانسية، حياتها في "دولة الخلافة". هي ركنٌ من أركان "الدولة"، فلولا أنّها تمسح عرق جبين زوجها في نهاية النهار، لا يقوى المقاتل على الصمود في ساحة المعركة. والأهم هو تحميلها واجب "تصويب إيمانه في لحظات التردّد والتشكيك في جدوى الشهادة"، وبالتالي، هي ليست جناحاً مكسوراً، بل هي الجناح الذي يظلل فارسها المغوار من التعب والشك ويحميه من الوساوس. أما فكرة الترمّل، فلا يمكن أن تخيف الرومانسية، فالمؤمنة لا تحزن، وفق فكر مناصري التنظيم، خصوصاً وأنّها متأكّدة مائة في المائة أنّها ستلاقي زوجها "الشهيد" في الجنة، مع الأربعين حور العين، وهي لا تشعر بالغيرة، لأنها متأكّدة، أيضاً، أنّه لا في الحياة الدنيا، ولا في الحياة الآخرة، سيحبّ غيرها.
والنقاب هو قمة الحب من فارسها، فهو يغار عليها من عيون الجميع، ولا يريدها إلا له. بهذه الفكرة الأخيرة، نجح شباب عديدون في إقناع غربيات غير مسلمات في ارتداء النقاب، والكفّ عن الاختلاط بالرجال، وباعتناق الإسلام أيضاً، وفق مفهوم الشاب للإسلام طبعاً. أما من ترتدي الحجاب أو النقاب في الغرب، فهي، أساساً، تشعر أن خياراتها محدودة في محيطها، وأن حجابها يخفيها عن عيون الآخر. وبما أنّها، طبعاً، لا تريد التخلّي عنه، فهي تجد في مقاتل التنظيم الرجل الذي يراها خلف نقابها، ويتغنّى بما يشكّل حاجزاً بينها وبين الرجل الغربي. لكنّها أبعد من قضية النقاب، بل هي رومانسية القصة و"البطولة". والتنظيم يمنحها على طبقٍ من فضّة دور الممثلة الرئيسية في الفيلم. حياةٌ سهلة، لا ضرورة للعمل والتعب، كما هو أغلب الحال في الغرب. كل ما عليها فعله هو البقاء في المنزل، والتواصل مع صديقاتها من زوجات المقاتلين، وتحضير الأكل وتربية الأولاد، وعلى الرغم من هذه الرفاهية، تنظر "الدولة" إليها كجزءٍ من أعمال زوجها "البطولية".
"البطلة هي أنتِ، في زمن قلّ فيه الرجال"
بحركة بطيئة، تبدأ الكاميرا من فوهة الرشاش، ينطلق الرصاص يميناً ويساراً، وتنطلق الكاميرا بخفّةٍ لترينا من يمسك الزناد، فنرى "ماريا الأذرية" خلفها زوجها المقاتل، يصفٌّق لها. تخبرنا مريم أنّها ستنفّذ عملية انتحارية، وتترك ابنها يتيماً، بعد استشهاد زوجها أيضاً، لكنّ الحياة الدنيا لا تهمّها، وابنها سيجد طريقه للاستشهاد أيضاً. لا يظهر "الوثائقي" أين نفّذت ماريا التفجير، ولا حتّى إذا كانت فعلياً من المنتمين إلى تنظيم الدولة. لكنّه نـُشر في سياق فيلمٍ متكامل، يشرح للمرأة المنقّبة، المناضلة لحقوق المرأة، أنّ "دولة الخلافة" تعامل النساء بمساواة مع الرجال، لا بل تتّكل عليهنّ أكثر، في زمنٍ قلّ فيه الرجال. وتلي هذه الجملة صورٌ للمسجد الأقصى ينتهكه جيش الاحتلال الإسرائيلي، نرى منقّبة في فرنسا تتعارك مع الشرطة التي تطالبها بنزع النقاب. مشكلة الغرب مع المنقّبة ليست رفضه النقاب، لا بل اعتقاده أنّ المنقبّة امرأة خاضعة لرغبات رجلٍ، يفرض عليها النقاب. يؤمن أغلب الفرنسيين أنّ قانون حظر النقاب هو لحماية حق المرأة المضطهدة، هكذا سوّق له اليمين، فيما كان الهدف انتخابياً بحتاً، فتم إقراره على الرغم من إعلان المحكمة العليا عدم دستوريته، لكسب أصوات الميّالين إلى اليمين المتطرّف. منقّبات عديدات في الغرب، يرتدين النقاب عن قناعة لا عن فرض، ويواجهن نظرة مجتمعٍ منمّطة لهنّ بأنّهن ضعيفات، خاضعات، مكسورات الجناح. عدا عن محدودية الوظائف التي يمكن أن يشغلنها، وعن نظرة الريبة تجاههنّ في الأماكن العامّة، حيث ينظر إليهن كثيرون على أنّهنّ مشروع انتحاري، قد يفجّر نفسه في أي وقت.
في "دولة الخلافة"، جميع عناصر كتيبة "الخنساء" نساء، يحملن السلاح، يمارسن دور الشرطة، وشرطة الآداب. لن أسترسل كثيراً في شرح الشعور الذي يولّده حمل السلاح من قوّة وسيطرة. لكن، لا يجب الاستخفاف، أيضاً، في أهمية هذا الشعور لدى نساء ورجال عديدين أيضاً في التنظيم. ولعلّ حمل البندقية وفرض القانون الذي يسمح لهؤلاء النسوة بأن يكنّ كما يردن هنّ، غالبية، وليس أقليّة مهمّشة ومستهجنة، هما أساس تجنيد المنقبّات أساساً في دول الغرب.
"أحبّك في الله يا أختي"
التهميش الذي تعاني منه المنقّبات، وحتّى المحجبات، في الدول الأوروبية خصوصاً، عدا عن امتناعهنّ عن الاختلاط بالرجال في مجتمعاتٍ مختلطة، يزيد من عزلتهنّ في المجتمعات. حتّى في الجاليات المسلمة، نرى أنّ "المعتدلين" نوعاً ما يجدون صعوبةً في التواصل مع "المتشدّدين"، إذا صحّت التسميات. لكنّ العائلات التي تلتزم بالصلاة والصوم لا تلتزم بالضرورة بفصل الرجال عن النساء، وبالتالي، يبقى الاختلاط محدوداً مع من هم أكثر التزاماً بحدود الاختلاط. أما أمام معتنقي الفكر التكفيري، فيصعب الاختلاط معهم أكثر، لأنّهم غالباً ينتقدون كل تطبيقات الآخرين للإسلام، ويرونها غير كافية. وبعد الانتقاد وأداء واجب العلم والخبر، ينطلقون بتكفير كل من لا يشاركهم في رؤيتهم الإسلام. أمام هذه الاختلافات، تعيش أغلب المنقّبات عزلةً حقيقية، حتّى داخل بيئتهن الطبيعية في الغرب. أمام هذه العزلة، تأتي نساءٌ يعشن على بعد آلاف الأميال، يشاركنهنّ المعتقد، وهنّ الأغلبية، ويعلنّ جهاراً لهنّ "أحبّك في الله يا أختي". هذا الحب الخالص، بنظرهنّ، الذي لا دوافع خلفية له، يجمعهنّ على الرغم من اختلاف اللغة، والبيئة، والأصل والفصل. هذا الحب الذي يدفع بعضهنّ للإعلان أنّها مست
عدّة لمشاركة زوجها مع أخواتها في الإسلام، لا بل إنّه لن يغمض لها جفن، إذا كانت إحدى أخواتها، التي تحبّها في الله، تنام وحيدة حزينة. ما الذي يبقيها هي في أرضٍ تشعر أن كلّ من عليها ينبذها، فيما توجد أرضٌ كل من عليها يحبها، في الله، حتّى قبل أن يلتقي بها؟
"الهجرة إلى دار الإسلام واجب"
قد تتداخل النقاط السابقة مع بعضها في إعلام التنظيم، لكن جميعها يدخل تحت مظلّة واحدة: واجب الهجرة إلى دار الإسلام. وهذا أوّل ما دعا إليه أبو بكر البغدادي، عندما أعلن إقامة "دولة الخلافة". لكنّه ليس من أعاد إحياء هذا "الواجب" في أفكار المسلمين في الغرب. بل يحاول آلاف من المسلمين، منذ أكثر من ثلاثة عقود، الانتقال إلى دولٍ تعدّ "داراً للإسلام"، حيث يسهل تربية الأبناء على تعاليم الإسلام، بأقل مغريات ممكنة. لكنّ عديدين يواجهون مشكلة الحصول على تأشيرة. فأغلب الدول العربية لا تمنح الإقامات الدائمة بدون وظيفة عمل، والوظائف ليست كافية لاستقبال جميع الراغبين في الانتقال إلى دولٍ مسلمة. عدا عن أنّه بالنسبة لتنظيم الدولة، هذه الدول لا تطبّق الإسلام الصحيح، لا بل تقولبه في قوانين بشرية. بالنسبة للراغبات، عادةً، في الهجرة إلى دار الاسلام، قبل تنظيم الدولة، أغلب الرجال الذين يحاولون الارتباط بهنّ يسعون هم إلى الهجرة إلى دول الغرب، لما تقدّمه من مساعدات وفرص عمل وجنسية، عوضاً عن استقدام النساء إلى الدول العربية. وبالتالي، مع تنظيم الدولة، يجدن أزواجاً يحققون لهنّ طموحاتهنّ في الهرب من مجتمعاتٍ لا تتناغم مع معتقداتهنّ.
مع الدوافع المختلفة، الفتيات الوحيدات اللواتي حاولن العودة إلى بلادهنّ، بعد الهجرة إلى "دولة الخلافة"، هنّ من فئة اللواتي ذهبن بدافع الرومانسية. فهنّ غالباً ما يصطدمن بواقعٍ بعيدٍ عن الرومانسية، مليء بالصعوبات. حتّى أنّ آخر مواقع التجنيد للفرنسيات يحذّرهنّ بوضوح "إذا كنتنّ ستشتكين من نقص النوتيلا في السوق، فابْقين مع جراركن، أنتن لا تستحقن الهجرة". ولعلّ هذا التحذير إشارة إلى أن التنظيم يتخلّى، تدريجياً، عن استراتيجية التجنيد عبر الرومانسية، للحدّ، أيضاً، من الانشقاقات، ومن التساؤلات بين صفوفه، ومن الاختراقات أيضاً. لكنّ الأكيد في الأحوال جميعها، أن السخرية من هؤلاء الفتيات يغلق أي باب للحوار معهنّ، واتهامهنّ بأّن هذا ليس هو الإسلام، لن يزيدهنّ سوى تعنّتاً وعزلةً وانغلاقاً على مجتمعهنّ، فبالنسبة لهنّ، الآخرون هم من يجهلون حقيقة الإسلام. مخاطبتهنّ بأفكارهنّ قد تكون صعبة، خصوصاً أنّ أغلبها بعيدٌ عن ثقافاتنا على اختلافها. لكنّ هؤلاء ينجبن أطفالاً، يعلمنهنّ أفكارهنّ، ورؤيتهنّ للإسلام.
صحيح أنّهن يخضن حرب سلاح، لكنّ حربهن الحقيقية حرب أفكار. والأفكار لا تموت بالقصف، لا بل تزداد تعنّتاً. الأفكار تسلتزم حرب توعية. لكن، كيف تكون التوعية ممكنة، حين يرفض الآخر تماماً الاستماع إليك؟ فهم الآخر، على الرغم من رفض أفكاره، والإنصات إليه، وعلى الرغم من صعوبة تقبّل قوله، تبدو السبيل الوحيد لإيجاد مفتاح الدخول إلى العقول.