الداخل الفلسطينيّ بين الممانعة والذوبان

06 اغسطس 2015
في الداخل تغيب ألوان العلم، تغيب الكوفيّة وصوتها(فرانس برس)
+ الخط -
فلسطين غنّتها الحناجر ولم تستطع مع وقعها صبرًا، ونطقها صدرُ القصيدة فتنهدها العجزُ، تنزّلت في الإسراء قداستها وفي مريم تجلّى رُطب طُهرها الوضاءُ. جاءت بها الرواية في أزقّة حيفا وبيّارات البرتقال الحزين.. وضاعت حُبًّا على خصر الميناء، وتشتت صلبًا على أسوارِ العرائس المُنتظرة.. وصارَ عنقُ الفلسطينيّ لاجئًا، قلبهُ مُشتّتًا، وجبينهُ مُحتلًا.. وفي يدهِ غصنُ زيتونٍ حباتُه غزلٌ للبنادق..


مرّت دول شّرق المتوسط إلى جانب الربيع العربي بما يدعى "المشروع السّياسيّ" في المفاهيم والبنيان من خلال الترويج للمفاهيم الثقافيّة الليبراليّة على حساب مبنى مجتمعها: الثّقافيّ، الاجتماعيّ، التاريخيّ، الدينيّ لغاية خلق خطوط انتمائيّة حديثة، فيها يلتقي الأفراد بعيدًا عن اختلافاتهم أو انتماءاتهم المحليّة. قوّض هذا المشروع النسيج والسياق الثقافيّ للأفراد وانتمائهم المحليّ باعتبارهِ وسيلةً داعمة لتكافل المجتمع ووحدته اللذين يُشكلان بدورهما، أهمية قصوى للحفاظ على سيرورة تطورّه القوميّ من خلال الإبقاء على السلوكيات التي تعزّز الهوية الوطنية.

السياق الثّقافيّ الدّينيّ في فلسطين أحد أهمّ الركائز التي تُدَعِّم تكافل المجتمع الفلسطينيّ ووحدة نسيجه المتنوّع. إخراج هذا السّياق من مستوى المعاني الخاصّة بالهويّة يُعتبر إخفاقًا على صعيد التلاحم المجتمعيّ؛ ففي الدّاخل الفلسطينيّ على سبيل المثال، حملت أحزاب سياسية بالتوافق مع رؤيتها الليبراليّة المسجد الأقصى المبارك كمركب سياسي مُفرغةً إياه من رمزيّته الدينيّة والسياديّة في محتوى الهويّة الثّقافيّة الدينيّة والتّاريخيّة مقوضةً بهذه "الخطوة الحداثيّة" أهمّ السياقات التي تضمن تكافل المجتمع ووحدته، والسلوكيات الثقافيّة السياسيّة التي تحقق مبدأ التلاحم الاجتماعي الفاعل وُفق الهوية الوطنيّة.

الهويّة الفلسطينيّة في قبضة الاحتلال

لعلّ من الأسباب التي أدّت إلى التغيّر في إحداثيات القضيّة الفلسطينيّة في الداخل وتراجع الهوية الفلسطينيّة مقابل تنامي الهوية الإسرائيلية؛ مشروع المؤسسة الصهيونية الذي يهدف إلى إعادة صياغة الهوية الفلسطينية وفقًا لصيغة الدولة الإسرائيلية ووجهاتها الثقافيّة والسياسيّة إلى جانب المساعي الحثيثة لإفراغ المكان من طابعه التاريخيّ والثّقافيّ.

يبدأ استهداف الوعي الإدراكي لفلسطينيي الداخل منذ مرحلة التعليم المدرسيّ، من خلال تحديد المحتوى التعليميّ الذي يتلقاه الفرد حاجبين عنه الرموز الدينيّة والثقافية والتاريخيّة للشعب الفلسطيني، إلى جانب إضعاف لغته الأم من خلال تغييب نتاجها الجوهري في مسعى لتهميشها وإفقادها قيمتها الاعتباريّة في حياة الفلسطينيّ. كما تتبع الدولة آليّة الحسم السياسيّ والاجتماعيّ لفلسطينيّ الداخل؛ في اختيارها المواطنين الفاعلين في مؤسساتها وفقاً لما يتلاءم مع ماهيّتها وخطّها السياسيّ، جاعلةً من فلسطينيي الداخل على هامش المجتمع، وهامش الاقتصاد وهامش القرار السياسي؛ محققين بذلك ارتباطاً مع إسرائيل –وإن كان هامشيّاً- على حساب الانفصال عن ديناميّة شعبهم الفلسطينيّ.

عملت المؤسسة الصهيونية على تطبيق مشاريع ورؤى تهدف إلى زرع الأساطير التاريخيّة حول حقّ اليهود في أرض فلسطين، حيث تتماشى مع سياستها وأهدافها في إضعاف القيمة المعنويّة للتاريخ الفلسطينيّ وحقائقه في نفوس أصحاب البلاد، ثمّ نزع المحتوى الشعوريّ بالتاريخ والمكان. إنّ سلخ الهوية الفلسطينيّة وانتزاع أبعادها التي تبلور الصراع مع الاحتلال لتدجين الفلسطينيين فكريًاً وأيدلوجيّاً بفرض واقع جديد عليهم يلوّح لهم قائلاً: "أنتم الأقليّة العربية المحظوظة التي تسكن نعيم الديمقراطيّة بخلاف الشعوب العربية!" وبذلك استطاعوا استقطاب الفلسطينيين سياسيًّا ومعنويًّا مغيبين هاجس الشعب المحتلّ من صيرورة الفلسطينيين.

وبالرغم من المحاولات الحثيثة لسلخ الهوية عن الداخل الفلسطينيّ بقيت الهوية الوطنيّة حاضرة في القلب والجوهر. يحيي الفلسطينيون في الداخل مناسبات عدة من خلال زيارة القرى المهجرة، إقامة مهرجانات وندوات، الاحتجاج والاعتصام وغيرها من التحركات المتاحة في مساحة المواطنة الإسرائيلية التي سقطوا بها. وجدت إسرائيل أن امتلاك هوية المكان وسلخ الهوية الفلسطينيّة أمران من المستحيل تحقيقهما؛ فشرعت إلى استيعاب الهوية الفلسطينيّة وبلورتها وفقًا لأهوائها، خرجت إلى الشارع العام تحت شعار تعدد الثقافات فصارت فكرة الزيُّ الفلسطينيّ وتطريزاته تُباع وتعرض كمُنتَج إسرائيليّ في المعارض، والتراث الفلسطيني وأدوات تاريخه تعرض في المتاحف تحت عناوين حقبات يهوديّة غابرة هذا السّعي لامتلاك الهوية الفلسطينيّة يفقد الفلسطينيين في الداخل مساحات من حيزهم الشعوريّ.

انطلقت إسرائيل بمشروع الخدمة المدنيّة كبديل للخدمة العسكرية في جيش الاحتلال التي يمتنع عن المشاركة بها الفلسطينيون من المسلمين والمسيحيين في الداخل. يعدّ مشروع الخدمة المدنية أكثر الآليات الأيديولوجية المُفعّلة خطورةً، حيث يتيح المجال للتقارب بين الفلسطينيّ ومؤسسات الدولة على رأسها المؤسسات المُسيّسة. هذا التقارب والاحتكاك يولد ما يدعى بازدواجيّة الهوية.

يُغَيَّبُ الوطنُ، وتَتَعاظم الأنا الفرديّة

الوطن في حياة الإنسان أحد أهم المحفّزات الداعمة لسيرورة الحياة والإنجازات، ففيه انتماؤه الاجتماعيّ الذي يعدّ واحدًا من أبرز المسالك المتولدة من التكوين الإنساني، مما يجعل الإنسان يتكيّف -إن صحّ التعبير- مع منظومات اجتماعيّة حياتيّة مختلفة لتحقيق رغباته المعيشيّة والنفسيّة. لفلسطيني الداخل حاجة ملحّة لوسائل داعمة لتحقيق رغباتهم الخاصة التي لا يستطيعون إليها سبيلاً بصورة فرديّة. الوطنُ تحت الاحتلال يغيبُ نجمه، لا علمٌ يرفرف في سماوات الشّعب المحتل ولا نشيد وطنيّ يصدح في صباح المدارس، لا أناشيد للمقاومة ولا حضور للأدب المقاوم.. في الداخل يغيب الجدار الموشوم بحنظله وألوان العلم الوطنيّ، تغيب الكوفيّة وصوتها، وتغيب معهم الحاضنة الاجتماعيّة والصبغة الوطنيّة للمجتمع. إنّ تآكل الهمّ الوطنيّ بالتزامن مع غياب الحاضنة الشعبيّة للداخل، نمّى لدى الفلسطينيّ الأنا الفرديّة دافعاً إياه للبحث عن كينونته في البديل الإسرائيلي الذي يدفَعُهُ إلى الانسلاخ عن هويته المكانيّة والوطنيّة.

الداخل الفلسطينيّ شعب وليس أقليّة

أرادت إسرائيل بمنح المواطنة الإسرائيلية لفلسطينيي الداخل خلق حالة من البلبلة وتحقيق التفتت في مركبات الهوية الداخليّة للأفراد والهوية الخارجية لهم، الهوية الوطنية الجامعة. فالتواجد تحت هذه الطائلة أتاح للمؤسسة الصهيونيّة بسط الهيمنة على الداخل من خلال آليات مختلفة، على رأسها تحديد خطوة المقاومة الفلسطينيّة المسلحة كخطوة مساسّ بأمنها وكيانها وتأطيرها تحت قوانين العقاب والمحاكمة، إضافةً إلى سياسة هدم البيوت ومصادرة الأراضي وإقامة مشاريع مؤسساتيّة صهيونية على أرض أصحاب البلاد، والعنف الممنهج ضد العرب باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية ودفعهم تحتَ طائلة المساءلة عند تعبيرهم عن تعاطفهم أو تأييدهم لشعبهم. كل هذه العوامل شَكّلت استراتيجيّة مُمنهجة لتحييد هذا الجزء من الشعب الفلسطينيّ بعيداً عن شعبه في الضفة، القدس والقطاع.

آليّة الدروع البشريّة

طوّرت إسرائيل هذه الآليّة لبسط هيمنتها على فلسطينيي الداخل، مستغلةً عوامل محوريّة في هويتهم كالحمية العائليّة والطموح لتفعيل السلطة كقوة اجتماعية مؤثرة في مجتمعهم المحليّ ومؤسسات الدولة. على سبيل المثال: انتخابات المجالس المحلية للقرى والبلدات العربية تُشكل ملهاة خطيرة ينزلق بها فلسطينيو الداخل ظنّاً منهم أنّهم صناع قرار وتأثير على الصعيد السياسيّ.

المجالس المحليّة ترقد في أسفل سلّم القوانين والمؤسّسات الإسرائيليّة، وترقى لتكون وسيلة تطبيق للقوانين المسنونة والممنهجة، إضافة إلى كونها وسيلة خدمات جماهيريّة. تتم عن طريقها تنظيم الأمور في القرى والبلدات العربية وفقاً لأهواء الدولة من تحديد بناء البيوت والمساكن، إقامة المشاريع والمبادرات الفرديّة والجماعيّة، مصادرة الأراضي وتخصيصها لمشاريعهم الصهيونيّة. رؤساء المجالس العرب يشكلون دروعاً بشريّة للاحتلال يختبئ بنواياه وخططه الاستيطانية وراء "منصبهم الاجتماعيّ السياسيّ".

التجزئة الجغرافيّة المعنويّة

تجزئة الشعبّ الفلسطينيّ كانت تكتيكًا عسكريًّا إسرائيليًّا منذ نكبة فلسطين ولا تزال إلى اليوم سياسة ممنهجة ذات أبعاد استقصائية للحفاظ على كينونتهم. الشعب الفلسطينيّ اللاجئ أولًا ثم المُحتل، ثم التقسيم وجعل الضفّة منطقة مفكّكة إلى جانب حصار غزة، واحتلال القدس وتهويدها ثمَّ جدار الفصل العنصري. فعلت إسرائيل كلّ الآليات الملموسة واللامحسوسة من أجل تجزئة الشعب الفلسطينيّ، وفك الارتباط بين الشعب الفلسطينيّ وتفرقته وتجزئته بهدف تغييب أهم عامل بنيوي يعزز هويتهم وكينونتهم، ارتباط الهوية والمكان.

إنّ الصراع الذي يخوضه فلسطينيو الداخل له خصوصيته وأبعاده الخطرة، لعلّه الصراع الأيديولوجيّ الأشدّ ضراوةً الذي من الممكن أن يتعرّض له شعبٌ مُجزأ، ويحضر السؤال؛ هل الاحتلال فقط من غيّب الداخل الفلسطينيّ عن شعبه؟

(فلسطين)
المساهمون