الخيل والليل والبيداء

07 يوليو 2014

تمثال المتنبي في بغداد (فرانس برس)

+ الخط -


الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُني
والسيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ.
هذا هو المتنبي يصف، بكامل نرجسيته، تضخم ذاته.
فماذا يقول لنا واقعه؟
مؤكد أننا لا نجادل البتة، في صدق الكلمتين الأخيرتين من بيت المتنبي الشهير. فلم يعرف القرطاس والقلم، في زمن أبي الطيب، شاعراً دانت له الكلمات، مثلما دانت له، إنه معجزة العربية وقد تجلت في شخص شاعر اعتلى، من دون منازع، عرش الكلمات، إلى حد بدا له أن تأليف "كتاب" وادعاء النبوة ليسا عسيريْن عليه.
الإعجاز اللغوي، كما نعرف، مقصور على القرآن. ولكن، ها هو المعرّي، الذي لا يقل رسوخاً عن المتنبي في المدونة الشعرية العربية، يؤلف في أبي الطيب كتاباً يسميه، من دون وجل، "معجز أحمد"! ليس صعباً علينا تلمس المقاربة الخطرة التي يعقدها المعري بين اسمين وإعجازين. ولكنَّ هذا عن القرطاس والقلم، فماذا عن الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح؟
هنا يظهر التفارق.
لنبدأ من الخيل والليل والبيداء.
لا شك أن المتنبي الذي ارتحل في المكان العربي والأعجمي، كما لم يرتحل شاعر في عصره، قد عرف الخيل والليل والبيداء. تذكّروا أنه، أصلاً، تربى (كما تقول أكثر من رواية) في صحراء السماوة، على الرغم من أنه يصعب تصور رجل "سقّاء" (بائع ماء)، مثل والد المتنبي (أي شبه معدم) يرسل ابنه، على عادة الأرستقراطية العربية القديمة، لينهل اللغة من "سادتها" في الصحراء.
حتى وإن لم تكن هذه الروايات صحيحة، يكفي أن نتذكر أن المتنبي قطع، في رحلة هروبه من مصر إلى الكوفة، أكثر من ألفي كيلومتر، معظمها في الصحراء، على ظهر جواد.
هذا عدا رحلاته بين الكوفة وحلب، والأخيرة وفلسطين، مروراً بمعظم أرجاء سورية ولبنان والأردن. لا شك، والحال، في معرفة المتنبي بالليل والبيداء والترحال. ولكن الشك يظل يحوم حول معرفته بالسيف والرمح.
لا يشك المستشرق الفرنسي بلاشير (وضع كتاباً رائداً عن أبي الطيب) في أن المتنبي تنبأ، وجمع حوله، في مطلع حياته، أنصاراً وخاض قتالاً، بينما ينكر محمود شاكر ذلك، فيما يترك طه حسين الباب موارباً على هذه النقطة.
ليس حديثنا هنا عن "تنبي" المتنبي، بل عن علاقته بالسيف والرمح، المرادفة لعلاقة القول بالفعل، وقدرة الشاعر (المثقف عموماً) على أن يكون خطابه في واد وفعله في واد آخر.
قصائد المتنبي "القرمطية" تنضح بصور العنف. هذا ما يقرره مصطفى الشكعة، مستشهداً بهذه الأبيات ذات الرنين الحربي المهتاج:
ولا تحسبنَّ المجدَ زقّاً وقَيَنةً
فما المجدُ إلاّ السيفُ والفَتكَةُ البكرُ
وتضريبُ أعناقِ الملوك وأن ترى
لك الهبواتُ السودُ والعسكر المجرُ
وتركُكَ في الدنيا دوياً كأنما
تداَوَلَ سمعُ المرءِ أُنْمُلُهُ العَشر.
فهل جرّب المتنبي "تضريب السيوف"، في هذه الفترة من حياته الفائرة بالحماسة والعصب المشدود، المنسوجة بلغة وذائقة شبه بدويتين؟
ليس هناك رأي قاطع.
قد يكون الشاعر، هنا، مجرد لسان حال جماعة، ليس إلاّ. ألم يوصف الشاعر العربي القديم بأنه "الناطق" باسم قومه، أو وزير إعلامهم، وما يقوله قد ينطبق على الجماعة أكثر، ربما، من انطباقه على الشاعر الفرد؟
أما في الفترة الحمدانية، الأكثر انسجاماً واشراقاً في حياة المتنبي وشعره، فقد يكون جرَّب "تضريب السيوف". هناك، في الواقع، أكثر من قول عن خوضه الحرب إلى جانب سيف الدولة، بل ثمة من تحدث عن شجاعته وإقدامه في القتال، لكن، ليس هذا رأي البغدادي الذي يقول إن سيف الدولة سلمه إلى النخاسين والروَّاض (مروضي الخيول) ليعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة.
بلاشير الذي يقتبس البغدادي يراه، أيضاً، متبجِّحاً، يثير السخرية في علاقته بالسيف والرمح. التبجّح ليس خصلة بعيدة عن أبي الطيب. قد نجد لها وصفاً ألطف في معجم الأنا المتضخمة، ولكنه يظل يحمل ظلالها.
أما الرواية الأكثر تداولاً عن مقتله على يد فاتك الأسدي الذي كان المتنبي قد عرَّض بأخته بأشنع العبارات وأشدها ابتذالاً، فتقول إنه فرَّ أمام فاتك، لكنَّ غلامه "مفلح" ذكَّره ببيته الشهير عن الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح، فتوقف أبو الطيب عن الهرب مردداً، لنفسه، ربما، قبل أي شخص آخر: لقد قتلتني!
لعله تذكَّر أيضاً قوله:
وليس بخائفٍ من حتفه من خاف مما قيلا!

دلالات
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن