يضطرنا الواقع أن ننشر أخباراً سوداء، لكن علينا أن نبرز النقيض الأبيض عندما نراه. ويتساءل الجميع أين الناس الذين خرجوا في الميادين المصرية، منذ ثلاث سنوات أو أكثر، مكونين ذلك العزف الثوري الرائع، الذي أطاح برئيس من على كرسي العرش، وما كان ليطيحه من عليه سوى الموت.
ويتساءلون أيضاً أين ذهبت تلك الأخلاق الجمّة، والمشاعر الرائعة التي انتابت كل مصري في تلك اللحظات، التي لم يكن يصعب فيها على المواطن أن يفدي بروحه فداء للوطن على طبق من ذهب ودون أدنى تردد. حتى إن دراسات اجتماعية صدرت في تلك الفترة، وأكدت تضاؤل حجم الجريمة إلى حدود الانعدام.
بعد الثورة التي يقول عنها المصريون اليوم "يا ثورة ما تمت"، يشيرون كذلك إلى أن معادن الناس تظهر في الشدة، وأن أسوأ ما في المصريين ظهر خلال السنوات الأخيرة، يأكلون بعضهم بعضاً، ويعضون رغيف بعضهم البعض، ويبلغون الشرطة وأمن الدولة عن بعضهم انتقاماً، كما أنهم يقتلون بعضهم البعض بدم بارد... إلخ.
كتب أحدهم على صفحته الشخصية على فيسبوك رسالة رسولنا الكريم "الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم الدين"، تلك الرسالة التي تبين أن شهامة المصريين ومعدنهم الطيب، ينتصر في النهاية على السياسة والساسة والإعلام والأخبار المشينة.
ويشير أحمد الدريني، استناداً إلى مضمون الرسالة السابقة، إلى موقف عايشه وأثّر به ويصفه بأنه "يمكن أعاد تشكيلي من تاني...".
ويخبر عن الموقف، معبراً بلهجته المحكية "حادثة في وسط الطريق، شاب واقع على الأرض من على موتوسيكل دليفري مغمى عليه... صندوق الموتوسيكل مكسور... الناس ملمومة حواليه... يمكن 10 أشخاص رجالة وستات".
ويتابع الدريني القصة "ميكروباص مسرع وسائقه أرعن، يتفاجأ بالحادثة. يتفادى صدم المصاب باللي حواليه، فينقلب هو كمان، ويتحرك على جنبه حوالي 15 متر وهو بيحك في الأسفلت في مشهد شبه حوادث الفيديو جيمز". يجري باتجاه الميكروباص المقلوب، ويتابع" يظهر من اللامكان نحو 50 شخصاً، كله يحاول ينقذ الناس اللي في الميكروباص المنكوب، وينتشلوا الناس".
تقدم الدريني باتجاه أحدهم، أسنده وأجلسه على الرصيف محاولاً استكشاف درجة إصابته، فأجابه المصاب "أنا كويس، لكن فيه ست كبيرة في السن داخل الميكروباص، إلحقها!"، عاد نحو المايكروباص وقدم المساعدة لمن احتاجها من المصابين وقال:" الناس بتنتشل بقية العالقين في الميكروباص واللي بيساعدوهم عددهم يتضاعف، وكأن مصر كلها تنقذهم".
الخطوة التالية كانت حسب قول الدريني كانت بتعاون الجميع على تعديل وضعية المايكروباص المنقلب، لأنه استحال على المتجمعين إخراج سيدة منقبة عالقة داخله، ويصف بدقة وبالتفصيل مجريات الأمور حتى تمكنوا من إعادة الميكروباص إلى وضعيته الصحيحة، وأخرجوا السيدة المسنة، ويقول: "الطريق كله تحول إلى مستشفى ميداني، بنات جامعيات بيمسحوا الدم عن المصابين، وناس توزع المياه على المصابين، وناس تهديء من روع المتأثرين من الصدمة".
ويتابع راوي القصة شارحاً كيف نُقل اثنان من المصابين بسيارة الأجرة، كلٌ إلى منزله، بعد أن رفضا الذهاب إلى المستشفى، وكيف استغربا سلوكه الإنساني ولفتته تجاههما، ما جعل أحدهما يبكي تأثراً. كما أن سائق التاكسي رفض أخذ أجرته شعوراً منه بواجب المساهمة في معاونة الناس وإسعافهم.
ويعدد الدريني اللحظات المؤثرة في مجمل الموقف الذي عاشه، ويقول: "جرعة المشاعر كانت فعلاً فوق الاحتمال" ما جعله يتأكد أن "البلد دي لو منكوبة من كل نواحيها، ففيها خير، وخير كثير".
انتهت الرسالة ليبدأ سيل التعليقات عليها على صفحات التواصل الاجتماعي، فيقول أحدهم: "طول عمرهم المصريين كده وأكتر كمان". ويعلق آخر بحديث نبوي فيقول "أمتي كالمطر، لا يدرى، الخير في أوله أم في آخره". ويقول ثالث: "قصة جميلة جداً وواقعية تظهر المروءة وقت الشدة".
وتكثر التعليقات الأخرى التي تسرد قصصاً مشابهه حد التطابق عن شهامة المصريين وولاد الحلال ممن يقفون لإخوانهم فيساندونهم وقت الشدة وعلى الطرقات. قصص تؤكد أن الخير لا يزال موجوداً في مصر.
اقرأ أيضاً: قرار جديد بحلّ 169 جمعية أهلية في مصر