من جنوب شرقي آسيا، تطل أزمة جديدة-قديمة مع بداية العام الجديد، مهدِّدة بمزيد من التوتر في تلك المنطقة، قد يتعدى الحاجز السياسي إلى مواجهة عسكرية. فبعد سنوات من الهدوء، يتجدد الخلاف الصيني-التايواني، بعد تهديدات صريحة من بكين باستخدام القوة العسكرية لإعادة تايوان إلى سيادتها. وتُعدّ قضية تايوان أكثر القضايا حساسية بالنسبة إلى الصين، التي تعتبرها جزءاً من أراضيها، فيما يحكم تايوان نظام مناهض لبكين منذ العام 1949، تاريخ انتهاء الحرب الأهلية الصينية وسيطرة الشيوعيين على السلطة في بكين، وانفصال البلدين. حينها أقام القوميون المنافسون للشيوعيين حكومةً في تايوان، الجزيرة الواقعة على بعد 160 كيلومتراً من البر الصيني الرئيسي، لتمر العلاقة بين البلدين بفترات كبيرة من التوتر العسكري، قبل أن تعلن بكين في الأول من يناير/كانون الثاني 1979 إنهاء القصف الروتيني بنيران المدفعية للجزر الواقعة تحت سيطرة تايوان القريبة من الصين، وتعرض فتح قنوات اتصال بين الطرفين بعد عقود من العداء. إلا أن رئيس تايوان آنذاك، تشيانغ تشينغ-كو، رفض العرض، وأعلن في إبريل/نيسان من العام نفسه سياسة "اللاءات الثلاث"، وهي لا للتواصل، ولا للتسوية، ولا للتفاوض مع الصين. وخفّف تشيانغ ذلك عام 1987، إذ سمح للناس في تايوان بزيارة الصين للقاء عائلاتهم. ولكن لم يتم التوقيع رسمياً على أي معاهدة سلام أو إنهاء رسمي للعداءات، فيما لا تزال الصين ترفض الاعتراف بتايوان بلداً مستقلاً عنها.
وعلى الرغم من تحسن العلاقات بين بكين وتايبيه خلال العقود الأربعة الأخيرة؛ فإنّ بكين تواصل تهديد الجزيرة بالخيار العسكري، إذا ما تجرّأت على إعلان استقلالها رسمياً أو استدعت قوة أجنبية للتدخّل فيها. وعادت العلاقات للتدهور بين البلدين، منذ تولّي تساي إينغ وين، التي تنتمي للحزب الديمقراطي التقدمي المؤيد للاستقلال، الرئاسة في تايوان عام 2016، إذ تشتبه الصين في أن تساي تسعى للدفع نحو استقلال رسمي، وهو أمر يُعد خطاً أحمرَ بالنسبة إلى بكين، التي كثّفت هذا العام الضغوط العسكرية والدبلوماسية، ونفذت تدريبات جوية وبحرية حول الجزيرة.
وفي خطاب ألقاه أمس في قاعة الشعب الكبرى في بكين بمناسبة الذكرى الأربعين لبيان "رسالة إلى أبناء الوطن في تايوان" في الأول من يناير/كانون الثاني 1979، عندما أعلنت بكين إنهاء القصف على جزر تسيطر عليها تايبه، قال الرئيس الصيني إنّ بلاده "تحتفظ بحقها في أخذ كل الإجراءات اللازمة" ضدّ "القوى الخارجية" التي تتدخّل للحؤول دون إعادة توحيد البلاد بطريقة سلمية، وكذلك أيضاً ضد الأنشطة التي يقوم بها دعاة الانفصال والاستقلال في الجزيرة. وحذّر من أنّ "استقلال تايوان لن يقود إلا إلى مأزق"، مضيفاً: "يجب على الصين أن تتوحّد مجدّداً وستتوحّد".
وأعاد شي تقديم الطرح الذي تروّجه سلطاته "لإعادة الوحدة"، وهي صيغة "بلدٍ واحدٍ ونظامين"، قائلاً إنه الخيار "الأنسب لتايوان"، وهو ما يعني أن تكون تايوان جزءاً من الصين، الأمر الذي يرفضه أنصار استقلال الجزيرة. وتابع قائلاً، أمام جمهور ضم رجال أعمال تايوانيين وكبار مسؤولي الحزب الشيوعي، إن من الواضح أن الغالبية العظمى في تايوان تدرك أن استقلال الجزيرة سيؤدي إلى "كارثة كبيرة". وأضاف: "الصينيون لا يهاجمون صينيين آخرين. نحن على استعداد لإبداء أقصى قدر من سلامة النيّة وتوسيع نطاق العمل الجاد من أجل إعادة الوحدة سلمياً". وقال: "لا نقدّم وعوداً بالتخلي عن استخدام القوة، ونحتفظ بخيار اتخاذ كل الوسائل الضرورية" لتحقيق هذا الهدف ومنع استقلال تايوان. وأضاف شي أن ذلك يستهدف القوى الأجنبية التي سعت للتدخّل والأقلية الضئيلة من القوى الداعية للاستقلال في تايوان وأنشطتها. ولم يتحدث شي بالتفصيل عن هذا الأمر، لكنه كان يشير على الأرجح إلى الولايات المتحدة، أكبر داعمي تايبه.
وكرر شي القول إن الصين مستعدة للحديث مع أي طرف في تايبه لدفع العملية السياسية، التي أوقفتها الصين منذ تولي تساي الرئاسة، ما داموا يقبلون مبدأ "صين واحدة". وقال: "بعد إعادة الوحدة سلمياً ستنعم تايوان بسلام دائم وسيتمتع المواطنون بحياة طيبة ومزدهرة". واقترح شي عقد محادثات بين البلدين لوضع "ترتيب منظم للتنمية السلمية للعلاقات بين الجانبين". وتعهّد بأن الوحدة ستحترم النظام الاجتماعي التايواني ونمط الحياة، وستكفل حقوقهم ومعتقداتهم الدينية وغير ذلك من الحقوق. وأضاف: "النزاعات السياسية الموجودة منذ فترة طويلة تؤثر على التطور الصحي والمستمر للعلاقة عبر المضيق، ولا يمكن أن تنتقل من جيل إلى جيل".
لكن طرح الصين سرعان ما قوبل برفض من جارتها، إذ قالت تساي متحدثةً للصحافيين إن تايوان لن تقبل أبداً بمبدأ "بلدٍ واحد ونظامين"، وإنها فخورة بأسلوب حياتها الديمقراطي. ودعت الصين "لتخطو بشجاعة نحو الديمقراطية لأنها السبيل الوحيد حتى تتمكن من فهم طريقة تفكير وإصرار تايوان"، مضيفة أنه يتعين على الصين مواجهة حقيقة "وجود جمهورية تايوان".
ويرتفع التوتر بين البلدين، فيما تقترب الصين من الاحتفال العام الحالي بمرور ذكرى سبعين عاماً على تأسيس الصين الشيوعية، مع محاولة شي تأمين الاستقرار للبلاد وتوسيع نفوذها الخارجي، وفي ظل توتر اقتصادي خصوصاً، مع الولايات المتحدة، الحليف الأبرز لتايوان. وتجري تايوان انتخابات رئاسية العام المقبل (2020)، ويرجح أن تسعى الصين بكل قواها، المشروعة وغير المشروعة، للتأثير على نتائج الانتخابات وفوز حلفائها المحليين.ويتوقع أن تثير إعادة بكين التهديد بضم تايوان إلى البر الصيني عسكرياً، انزعاج إدارة دونالد ترامب، إلا في حال قرر الأخير وأركان حكمه مدّ انسحاب أميركا من دور "شرطي العالم"، إلى الجنوب الآسيوي، وفي حال اعتبرت واشنطن أن التهديد الصيني لتايبه "شأن داخلي صيني". لكن هذا الاحتمال يبقى ضئيلاً نظراً للأهمية القصوى التي توليها أميركا لهذه المنطقة من العالم، علماً أن ملف الاعتراف الأميركي بتايوان لطالما شكّل أزمة بين البلدين وصلت بدورها إلى التهديد العسكري المتبادل. حتى أن ترامب كان قد حذّر من أن بلاده تعتزم تعزيز ترسانتها من الأسلحة النووية للضغط على روسيا والصين. كما أن واشنطن وبكين خاضتا حرباً تجارية، بعضهما ضد البعض الآخر، معظم العام 2018، شهدت تعطل تدفق بضائع بمئات المليارات من الدولارات بين أكبر اقتصادين في العالم بسبب رسوم جمركية. ويرجح كثيرون أن تستغل واشنطن الأزمة القديمة-الجديدة اليوم لتحصيل مكاسب في الحرب التجارية، فيطرح البعض احتمالات أن تساوم أميركا الصينَ على ورقة فورموزا في اقتراح مقايضة مثلاً، كأن يعرض ترامب ومساعدوه على حكام تايوان، تحسين الشروط التجارية بين البلدين لصالح واشنطن، في مقابل نزع أميركا حمايتها الدولية عن تايوان.
هذه التجربة لا يبدو أنها ستحفّز التايوانيين على قبول الاقتراح الصيني، لا سيما مع تصاعد الدعوات إلى تنظيم استفتاء على إعلان جزيرة تايوان، التي يسكنها نحو 23 مليون مواطن، الاستقلال رسمياً عن الصين، كما حصل خلال تظاهرة شهدتها تايبه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وشارك فيها الآلاف.