الحوثي نقيضاً لشباب الربيع اليمني
"دواعش"، هكذا يصف الحوثي كل خصومه، ليجردهم من آدميتهم، وتحويلهم إلى أهداف شرعية مباحة لآلة القتل التي لا يجيد سواها. هكذا زجت آلة الحوثي القمعية والقاتلة مئات في سجون لا نعرف عنها شيئاً، وكان من بينهم النقيض الموضوعي والأخلاقي للحوثي الشاب، أحمد علي عبد اللطيف. صاحب وجه بشوش وضاحك في كل حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، يجسد بكثافة كل أحلام اليمنيين عام 2011، فهو شاب مثقف ليس أيديولوجياً، فلم ينتم لحزب. انخرط، كآلاف غيره، في ثورة سلمية، تطمح إلى تغيير نظام الامتيازات المناطقية والقبلية لنظام أكثر عدالة ومساواة.
ها نحن في زمن عبد الملك الحوثي الذي يحاول تجريف زمن حاول أحمد علي عبد اللطيف، وغيره من الشباب، إيجاده وتشكيله، زمن يليق بأحلام اليمنيين في القرن الحادي والعشرين، ولا يذهب بهم بعيداً إلى القرن السابع الميلادي، في رحلة تاريخية طويلة من الثارات والصراعات الدموية التي لا تقدم أي قيمة سياسية أو إنسانية لليمنيين.
أحمد الذي قاد كل التحركات الشبابية المعارضة منذ 2011، سواء التي كانت ضد علي عبدالله صالح، ثم ضد من تلاه، الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومته الائتلافية، ثم الحوثي أخيراً. وفي آخر مظاهرة حاشدة ضد الحوثي، تخلت فيها الأحزاب عن شبابها، وغيرهم من شباب مستقل، اعتلى أحمد منصة منبر الجمعة، يؤم الناس، ويخطب فيهم عن العدالة والمساواة، قيماً لا تنفصل عن أي دين، ولا تعارض أي قيمة إنسانية، لكنها تضرب بعمق من يتصورون أنفسهم تجسيداً للإرادة الإلهية، مثل الحوثي وغيره من قيادات دينية متطرفة ومشوهة.
أحمد نموذج لشباب سلمي، كان يحلم بالأجمل، وتعرض للقمع والتهميش، عبد الملك أيضاً نموذج للشاب، كلاهما في مقتبل الثلاثينات، لكن عبد الملك هو الحالة المعاكسة، هو النتاج الطبيعي للأنظمة الفاسدة والقمعية السابقة، لكن من دون حلم، بل تكرار أسوأ لها، هو تجسيد لمقولة "ذهب التلميذ وجاء المعلم".
ها هو النظام السابق يتحول إلى تلميذ قرب الحوثي، تلميذ في القمع وفي التخلف وفي التمييز والظلم وفي الاستهانة بكل قيمة تمثلها الدولة أمام كل القيم البدائية، من قبيلة وسلالة وعشيرة، وتلميذ في الدموية والحروب العبثية. ها هو الحوثي يتفوق على من سبقه، كحالة تلخيص مكثفة لكل القيم التي ثار ضدها اليمنيون عام 2011.
عبد الملك الحوثي ابن الامتياز السلالي المقدس من أسرة هاشمية دينية محافظة، لم يخرج من اليمن، وربما لم يخرج من صعده. لم ينخرط في مدارس التعليم العادية التابعة للحكومة، ليدرس تاريخ وطنه اليمن وجغرافيته، لعله يعرف قليلاً عن بلد واسع، يتجاوز صعده اسمه اليمن. جل نصيبه من التعليم كان دراسة آيات قرآنية، وبعض المبادئ الدينية على أسس المذهب الزيدي من والده.
عبد الملك الحوثي قادم من معقل الزيدية المحافظة في صعده التي استوطن فيها الإمام الهادي قبل ألف ومئتين عام، وأسس فيها أول دولة زيدية، وهو من أسرة دينية متشددة، ومثل مئات الأسر، أو ربما آلاف تدعي النسب لآل البيت، وحسب الزيدية، فهذا يمنح امتيازات اجتماعية وسياسية هائلة، وتضعهم في مرتبة أعلى من بقية البشر.
كان عبد الملك في مقتبل العشرينات، عندما اندلعت حرب صعده، وقتل أخوه المؤسس لجماعة الحوثي حسين عام 2004، وبعدها بقليل منذ الجولة الثالثة للحرب عام 2006 صار قيادياً للجماعة المسلحة ضد قوات الدولة. هكذا أصبح الشاب العشريني مسلحاً يقاتل الدولة التي لم يعرف مدارسها، ولم يلحظ حضورها، لا بخدمات وقانون، في صعده المهمشة والمعزولة، وعوضاً عن الدراسة في جامعة، أو العمل في أرض، شق الشاب العشريني طريق القتال ضد الدولة.
في المقابل، كان أحمد شاباً مسالماً من مدينة إب، وهي مدينة زراعية وسط اليمن، تتعايش فيها المذاهب بسلام فريد، ورفدت إب الدولة اليمنية بموظفين ومزارعين كثيرين، وبغيرهم في مدينة لا تعي كثيراً الانتماءات المذهبية والقبلية والسلالية، وسهل دمجها ضمن هوية وطنية، اسمها اليمن.
خرج أحمد للتعليم في الهند بعد الثانوية، ليعود منتصف عشريناته، ويزاول نشاطه السياسي الذي يصل إلى ذروته عام 2011، ثم عام 2014. درس في مدارس الدولة في أسرة يمنية عادية، وهو لا يقول لقب أسرته ليتفادى التنميط المناطقي، والذي تطور، الآن، ليصبح مذهبياً وسلالياً.
عبد الملك الحوثي لا شيء يؤهله لقيادة جماعة الحوثي، سوى أنه نجل بدر الدين الحوثي، العالم الديني المتشدد، وأخ القائد الروحي للجماعة حسين الحوثي. أحمد لا شيء يؤهله لقيادة العمل السياسي سوى تعليمه وأحلامه. يدير عبد الملك الحوثي، اليوم، حرباً قاسية ضد أبناء اليمن وحرب أخرى تهويشية ومستفزة لجارة اليمن السعودية. وفي هذا كله، هو يزج بآلاف الأطفال والشباب وقوداً لهذه الحرب، كمسلحين وآلاف آخرين، يدفعون ثمن هذه الحرب موتاً، بلد فيه 25 مليون نسمة، يعانون من تسلط شاب عابث لا يعرف الكثير عن اليمن والعالم، وعن الزمن الذي يعيشه، لكنه يؤمن بقوة أنه ابن سلالة مقدسة، احترفت الحرب المزينة بالوعود المقدسة للجنة.
اليوم أحمد علي عبد اللطيف سجين في أحد سجون الحوثي، لا نعرف مصيره، ليس سجنه الأول، وعندما باركته على الخروج من السجن السابق، قال: لا بأس من السجن. على الأقل، سأكون صادقاً عندما أقول لابني سام إنني حاولت أن يكون له مستقبل أفضل. كان مستهيناً بتضحياته، متطلعاً لمستقبل أفضل، بينما الحوثي مختبئ في المعركة، مستمتع بالهالة المقدسة التي أحاط بها نفسه.
أحمد الشاب الذي قمعت أحلامه، ومن قمعوا أحلامه من دول الجوار ومكونات النظام القديم يصطفون، الآن، في حربهم الداخلية والخارجية ضد اليمن. إنه يمثل جيلا شابا حلم، وأطيحت أحلامه. ويمثل عبد الملك الحوثي جيلا شابا عجز عن الحلم، ولأنه كان الامتداد الأقرب والطبيعي للأنظمة السابقة، نجح في الصعود والتسلط.
أحمد وعبد الملك هما الجيل الشاب الذي يصعد، الآن، على أنقاض مرحلة انقضت، ولم تجد، ولن تنفع كل محاولات استعادة مرحلة ما قبل الربيع العربي. أحمد يمثل قيمة المستقبل والانفتاح على العالم، حالة نموذجية للشباب المثقف المنخرط في المجال العام، من دون أيديولوجية، بينما يمثل عبد الملك قيمة الماضي والانغلاق والعزلة، حالة نموذجية من الشباب المتطرف دينياً. الأول حاربه الجميع، والثاني نجح في التحايل، وسط محاولات للعودة إلى ما قبل الربيع العربي، حتى صار متصدراً للمشهد.
أحمد في السجن متوارياً بأحلام جيله الذي حاول أن يزيح سلمياً زمناً مضى، لكنه أبى الرحيل بيسر، وها هو ينزاح بقوة شاب آخر متطرف، قضى على كل المحاولات الحالمة بالإصلاح والتغيير السلمي، وحل محلها الصدام والحرب، حالة لا يمكن الفرار من واقعها، لكنها، مثل كل محاولات العودة إلى الماضي، دموية وقصيرة الأجل، ليظل الباب مفتوحاً للمستقبل وأحلامه.