الحنان يتدفق من عينيك

31 مايو 2016
أعمال للفنان الللبناني كميل حوا (بإذن من الفنان)
+ الخط -
وهو في طريقه إلى مدرسة سعد الله الجابري، مدرسته في حيِّ عرنوس الدمشقي، يسترعي انتباهه إعلان وضع في واجهة متجر لثياب الأطفال الصوفية، مكتوب بخط أسود عريض: "بحاجة إلى شغّالة صوف". يعلم أنكِ سيدة من أتقن حياكة الثياب الصوفية لأولادك ولمن يشاء من معارفك. يثير فضولكِ حين يقول لك ما قرأه في واجهة متجر "يحيى الأفندي"، في مواجهة المستشفى الإيطالي. فتطلبين منه مرافقتك إليه. 

يستقبلكِ يحيى الأفندي بتحفظ شديد تكشفه عيناه ويداريه ببعض ابتسامة لا تكاد تخفيه. ما كان ينتظر أن تستجيب لإعلانه امرأة لا يخفي حجابُها شبابها. لكنه يريد أن يستيقن من قدراتك. يناولك قطعة يريد منك أن تنجزي مثلها وتعودين إليه في اليوم التالي كي يرى. لكنكِ تبدين استعدادك لإنجازها في التوِّ والساعة.

يناولك الصوف وسنارتيْن. تباشرين العمل واقفة في زاوية المتجر الصغير من دون أن ترفعي الحجاب عن وجهك. كانت أصابع يديْكِ تصنع العُقَدَ بسرعة أصابع عازف ماهر على البيانو. لم تمض دقائق قليلة حتى وضعتِ بين يديه ما أنجزتِه: صورة طبق الأصل عن القطعة الجاهزة بزخرفتها البارزة الدقيقة. لم يعلق بشيء. كان الذهول يعقد لسانه. وكنتُ أرى ذلك.
يعهد إليكِ بالعمل بعد اتفاقكما على الأجر والمهلة. وتخرجين من متجره ممسكة بيدي بخطوات تكاد تشبه قفزات راقصة. كان الفرح يغمرك. فرح رأيته يضيء وجهكِ حين وصلنا البيت. لم تقولي شيئاً. لكني شعرت بشفتيكِ تطبعان القبل على وجهي نائماً. لم يكن من طبعكِ أن تُبدي عواطفكِ أمام من تحبين.

حين أردتِ الذهاب إلى "يحيى الأفندي" كي تقدمي له عملك طلبتِ إليّ مرافقتكِ. ناولك أجركِ مضاعفاً. لم يكن يتوقع هذه الموهبة في حياكة الصوف لديكِ. فأراد أن يعبّر لهذه الفتاة التي لا يرى وجهها عن امتنانه. كانت تلك طريقته في أن يقول: شكراً.
تخرجين من المتجر في اتجاه عرنوس. على مسافة مائة متر يتواجد متجر الحلويات الغربية الجميل "فيينا"، بواجهاته الحافلة بقوالب أو قطع الحلوى المزينة بالشوكولاتة أو بقطع الفواكه الشهية. تدخلين المتجر وتطلبين إليّ أن أختار ما أشاء "مما يشتهيه قلبك"، تقولين لي. 
تتذكرين، حين قدتِ طفلكِ إلى مدرسته على مقربة من هذا المتجر للمرة الأولى، والتياع قلبكِ حزناً وحِرقة أن يمر طفلك كل يوم من هنا وترى عيناه ما كانت يومئذ تراه عيناكِ وتبكيان أسفاً. ها أنت الآن تثأرين من فقركِ إذ يمنحك تعب يديْك ما يشفي غليلك أماً. كان الحنان يتدفق من عينيك وهي تراه يتناول تلك الحلويات بنهم طفولي.

كان لديك واحدٌ ممن "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً". وكنتِ تريدين أن يغمره هو الآخر ذلك الفرح الذي استحوذ عليكِ يوم حملتِ للمرة الأولى أجر يومين من العمل. ولقد فعلتِ.
                                                ** ** ** 

فجأة ترين ابنك يعود على حين غرة عند منتصف النهار. تسألين فلا يجيب. لا تزال الكلمات حبيسة غضب شديد تشي به قسمات الوجه المشدودة وصرامة النظرة. يعترف لكِ أنه استقال من عمله بعد مشادة بينه وبين المدير الفني للمصنع شتمه على أثرها أمام عمال المصنع بكلمة غريبة أدركَ أنها شديدة البذاءة: "شيوعي، بازاونغ". كان المدير حلبياً. كان يصرخ في وجه أحدهم بالكلمة الأخيرة كلما غضب.

لكن الكلمة الأولى أرعبتكِ. كانت بدايات عام 1961، وكنتِ تعرفين أن كل من حمل هذه الصفة يسكن السجون منذ سنتيْن. لم تبحثي عن دلالة الكلمة الثانية التي دفعت ابنكِ إلى الاستقالة.

تقولين له: وماذا لو اعتذر هذا المدير عن إهانته لك أمام العمال؟
تمنى ذلك في أعماقه لكنه يعرف شراسة الرجل وكبرياءه. تسألينه: كم قبضت من راتبك قبل أن تغادر؟ ستة وعشرون ليرة!
خذ منها ليرة واحدة وأعطني الباقي. إذهب بها إلى السينما سيراً على الأقدام. فإن عدتَ إلى البيت بعد اعتذار هذا الشخص احتفظتُ بالليرات الباقية، وإلا أعدتُها لك!
ضحك ابنكِ من أعماقه. قبل الصفقة بحبور. يضع كل ما معه بين يديكِ ويحتفظ بليرة واحدة. يغادر البيت كما شئتِ. كان عليه أن يهبط جادة الشمسية الخامسة على سفح قاسيون في حي المهاجرين، وأن يجتاز شارع ناظم باشا وصولاً إلى منطقة شورى، لينعطف منها نحو شارع أبي رمانة ثم باتجاه حي العفيف متابعاً السير نحو الجسر الأبيض فشارع الصالحية وصولاً إلى سينما الأمير. وهو يجتاز مفترق أبي رمانة، سمع صرير دواليب سيارة فولكسفاكن تتوقف حذاءه فجأة. يناديه من فيها. كان مديره العام في المصنع يلح عليه أن يصعد السيارة. يمتثل. 
لم يكن بوسعه الرفض ولا الاعتذار.

في الطريق إلى المصنع يسمع مديره العام يسرد حكاية استقالته كما سمعها من المدير الفني. يؤكد له أن هذا الأخير ندم على ما قاله وما فعله. لم يكن في وضع نفسي طبيعي. كان يبحث عن طريقة يحملك بها على أن تعود إلى مكتبك. اتصلت بعمكَ كي يعطيني عنوان بيتك. لم أجده. قلتُ أفعل ذلك هذا المساء. وها أنت تسير في الطريق على غير انتظار. سترى. سيعتذر أمامك وبحضور عمال المصنع جميعاً.
يعودُ ابنك إليكِ مساء. ويرى في وجهك قلق السؤال. يقول لك: ولكن ما الذي فعلتِه؟ وجوابك: لا شيء. لا شيء. أبداً.
ديدنك على الدوام. ودهشة تسكنُ عينيك.

                                                ** ** ** 
يوم رحيلك
ثلاثة أيام وأنتِ على هذه الحال. كما لو أن عينيك المغمضتين تريان ما لم يكن أحدٌ من حولك يراه. بناتك وأبناؤك من حولك يودون لو يستمعوا ثانية إلى كلماتك الحانية. تُسمَع فجأة طرقات على الباب. تهرع ابنتك لمعرفة الطارق. شباب يحملون أكياساً من اللحوم يريدون تسليمها للحاجّة. فجأة تستيقظين. تنهضين كي تجلسي على السرير من دون مساعدة أحد. تنادي ابنتكِ أن تطلب من هؤلاء الشباب أن يحملوا ما أتوا به إليها إلى جيرانك، في العمارة المقابلة. وتقولين اسم العائلة المَعْنية بهذه الأكياس.
تستجيب ابنتكِ. ويستعيد الشباب الأكياس التي وضعوها خلف الباب.
وتعودين إلى ما كنت فيه، ممدّدة على السرير، مغمضة العينين. لكن الباب ما يلبث أن يُطرق من جديد. وتهرع ابنتك ثانية إليه تسأل من الطارق. فتسمع من يرجوها أن تعيد الأكياس التي استلمتها قبل قليل لأن حامليها لم يعرفوا العنوان الصحيح. تقول لهم: وصلت الأكياس إلى من تريدون؟ 
كان العنوان هو الذي أشرتِ به كي يحملوا أكياسهم إليه. تتساءل ابنتك: كيف عرفتِ وأنتِ في ما أنتِ فيه؟
ترى، أكنت تفكرين: أدّوا الأمانات إلى أهلها؟
ما أكثر ما أستعيد هذين السؤالين وسواهما، بهذه الكلمات أو تلك، كلما أثرتِ ذهولَ مَنْ حولك.
ربما أعثر على الجواب في ما تبادله ذات يوم ابن عربي وابن رشد.
دلالات
المساهمون