الحمار الذي قرأ الأسفار
أنا حمار، يا سادة، أعرف خانتي المتدنية في تصنيفاتكم المتحيّزة للعرق العربي تحديداً، وأصرّ على العرق العربي؛ لأنه الأكثر شماتة بالحمير، ذلك أن إخوتي في بقاع جغرافية أخرى لا يعيشون هذا التمييز المتدني الذي أعيشه، فهم هناك يحظون بترفٍ حقوقي، يحسدهم عليه البشر أنفسهم.
عموماً، لم أعد مكترثاً بتصنيفاتكم البائسة، خصوصاً بعد الفضيحة المدوية التي ألحقتها بكم عدسات المقاتلات الأميركية، وهي ترصد مقاتلاً منكم في وضعيةٍ مخزية مع أحد بني جلدتي من الحمير، ما يبرهن، بالنهيق الملموس، أن حاجتكم إلينا لا تقف عند حدود "حمل الأسفار"، وهي المهمة التي أصبحت طرفة لازمة في مجالسكم، لتبخيس جنسنا "الحميري"، علماً أن أجدادكم كانوا أكثر تقديراً لنا، حين تسمّت بعض قبائلهم "حمير". هل تذكرونها؟
ما أود قوله، أيها السادة، إنني الحمار الوحيد الذي سيثأر لبني جنسي منكم، وسأشهّر بكم، ليس على طريقة ذلك الطيار الأميركي، بل بسحق قناعاتكم حول مهمات الحمير المقتصرة على "حمل الأسفار"، من دون معرفة متونها، وما تحتويه من "درر" المعرفة التي تتبجحون بمعرفتها.
حدث الأمر مصادفة، حين كنت أقوم بمهمتي المعتادة في حمل "أسفاركم"، في تلك الظهيرة القائظة، حين تعثّرت قدمي بغتة بحجر، فكدت أسقط، لولا أني تماسكت في اللحظة الأخيرة، واقتصرت الأضرار على سقوط أحد الكتب فقط من الحمولة الثقيلة على ظهري، وشاء سوء طالعي أن يكون الكتاب ديوان شعر لشاعركم المبجّل، أبو تمام، مثلما شاء حظي العاثر أن ينفتح الكتاب على بيت الشعر الذي تتغنّون به، كلما شعرتم بمبلغ الفجوة المعرفية التي تفصلكم عن العالم الآخر، وأعني: "السيف أصدق إنباءً من الكتب/ في حدّه الحدّ بين الجد واللعب".
أعترف أن هذا البيت من الشعر هزّني، وأوقف شعر ذيلي. ولأول مرة في حياتي، أشعر بأني مخدوع بكم، وبأني لم أكن أحمل "أسفاراً" طوال رحلاتي المكوكية من المحيط إلى الخليج، بل مجرد أكوام من "العهن المنفوش"، إذ كيف أحمل كتباً لا تقيمون لها وزناً أمام حكمة السيف وصحة مفرداته. ولماذا، إذن، لم تحملوا على ظهري سيوفاً لا أسفاراً، إذا كان هذا ما تؤمنون به، أم كان القصد مجرد السخرية مني، وإظهار تفوقكم المعرفي على الحمير، بعد أن أخفقتم في إظهاره على أقرانكم من البشر؟
ربما يتبجّح أحدكم بأن ما قرأته كان محض تراث عفّى عليه الزمن. لكن، كيف تفسرون ما يحدث اليوم، هل ما زال التاريخ حاضراً في جوهر فلسفتكم الفكرية، ألا يفسر ذلك قسطاً كبيراً من سلوككم ومعتقداتكم، قديمها وحديثها، وخصوصاً أنكم ما زلتم تتغنون بهذا البيت في حياتكم الدموية، ما يبرهن بأنه بيت شعر لم يغيّبه التاريخ، بل تناقلته أجيالكم بوصفه من ثوابتكم التي لا تتزحزح، وما أكثر ما تولّى هذا السيف حسم كل خلافاتكم الداخلية، ومنازعاتكم البينية فحسب.
لن أدخل معكم في نقاشات جوفاء، أعرف أن السيف سيحسمها في نهاية المطاف، غير أن كل ما أطلبه أن تعيدوا إليّ اعتباري، فلنقل إنني أطالب باعتذار تاريخي عن قرون الخديعة التي جعلتموني فيها سخرية أمام أقراني من البهائم الأخرى التي كانت تعتقد أنني أتميّز عليها بحمل أسفاركم الجوفاء. أريد طرازاً من العزاء الذاتي، يشعرني بأنني لم أعد حماراً في حظائركم التي تتسع، يومياً، لتشمل أوطاناً ببقرها وبشرها.
ولا حاجة بي لتحذيركم بأنني قرأت أسفاراً أخرى من الفضائح الكفيلة بصدم الكلاب والقرود، لا مجرد الحمير فحسب. لكن، لأنني حمار مهذب بات يشعر بأهميته، أنصحكم، بعد الآن، بحمل أسفاركم على ظهوركم، ويحق لنا، بعد ذلك، نحن الحمير أعلاه، أن نتندّر على عرب يحملون "أصفاراً"، لا تساوي ثمن حبرها.