الحكومة العراقيّة المنتظرة وعثرات الاحتلال

07 يونيو 2014

جندي أميركي أمام مقر مجلس محلي في بغداد (أكتوبر/2009/Getty)

+ الخط -
يعيش العراقيون، اليوم، حالة مللٍ قاسٍ، وهم ينتظرون تشكيل "حكومتهم الرشيدة" التي ستأخذ البلد، وناسه، أربع سنوات مقبلة، لا أحد يعرف، أو يُقدّر كيف ستكون.. فمن "نافذة الترشيح" لهذه الحكومة، تُطل الوجوه نفسها التي أمسكت بعنق البلد في السنوات العشر الماضية، وضمن دورتين انتخابيتين، لم يكسب فيهما البلد وناسه سوى تصاعد عمليات العنف اليومي، وما يقترب بالحياة من الانحلال والانفلات الأمني، والتصاعد الواضح في حالات الفقر، والأمية، والبطالة، وسوء الخدمات العامة، فضلاً عن حالات الفساد المالي والإداري التي بلغت درجة مرعبة. ومع ذلك، لم تهتزّ ضمائر المُنتخَبين، ولا نفوسهم، فتستجيب بحركة إنقاذ أو انتشال للمجتمع من حالة الغرق التي يعيشها بفعل طوفان الأزمات التي تشكل، في الحال الحاضرة، "متوالية مأساوية" للبلد وإنسانه.
ولعلّ ما يمدّ في حالة التمادي هذه أن "المنتخَبين" الذين ملأوا بحضورهم شاشات الفضائيات، يردّون على أي اعتراض لك عليهم، في ما سلكوا وسيسلكون، بأن الشعب الذي "زحف إلى صناديق الاقتراع" هو مَن انتخبهم وقال الكلمة الفصل في تفويضهم تمثيله والحديث باسمه، فهو مَن "اختارهم"، وهم "مَن يُمثّله". فإذا ما سألتهم عن "برامجهم"، إذا ما جلسوا على "كرسي السلطة" من جديد، انحدروا إليك بكلام كثير، سبق أن سمعناه منهم، ممّا لا يتعدى "العبارات الفضفاضة": لا تُعيّن شيئاً، ولا تُحدّد أسلوباً في التنفيذ.
وتتلمّس ما لوعودهم من "أصول"، لتجدها صورة مستعادة عمّا كان في الانتخابات السابقة. وما أن تنظر في الكيفية التي تجري فيها "مفاوضات التشكيل" هذه بين الكتل الفائزة انتخابياً، حتى تُدرك أن الطريق التي انتهت بالحكومة السابقة ستكون نفسها الطريق التي تعود بك مع "نظيرتها الجديدة"، فهي "حكومة أحزاب"، وليست "حكومة بناء دولة"، تضع في برنامجها الشروع بتنظيف الواقع المجتمعي ممّا علق به من "تلوثات"، لا تليق بإنسان القرن الحادي والعشرين، ولا بكيان دولة في هذا القرن.
فكيف حصل هذا/ ويحصل في واقع بلد مثل العراق، له تكوينه المؤسسي العريق، ودولته ذات التاريخ؟

لنعد إلى البداية، بداية الاحتلال الذي "ألغى"، و"أحلّ" محلّ ما ألغى، فإن لم تكن للأمر جذوره، فإن له بذوره: فقد أحدث الاحتلال الأميركي، العام 2003، انحلالاً واضحاً في بنية المجتمع العراقي، وإن كان التمهيد لذلك قد بدأ بحرب 1991 وبفرض الحصار عليه. وقد أمعنت "حكومات الاحتلال" التي تعاقبت على سدّة الحكم وكراسيّه، في هذا التحلّل يوم أعطت الشرعية لهذا الاحتلال بأن عدّته "عملية تحرير" للبلد من "واقع الديكتاتورية" التي تحكمه، ونظرت إلى المحتل كونه حامل الوعد بـ"عراق جديد"، من دون تحديد هويّة هذا العراق.
وظلت "الحكومات التي تعاقبت على السلطة" ملتزمة بتلك "الموازين" التي اتخذها "مجلس الحكم"، ووضعها، وألزم "القادة" الذين قادهم مهندس هذا "العراق الجديد" الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، بتنفيذها، باعتماد حالتين (لا طريقتين) في فرض سلطويتها: الكذب على الشعب في ما تبثّ له من وعود، لم يتحقق منها شيء، وتدمير البنية الذاتية لإنسان هذا المجتمع، لعلّ في هذا ما يضمن استمرار الولاء للمحتل، الذي، وإنْ انسحبت قواته العسكرية من أرض البلاد، فإنه ظلّ الحاكم الذي يحكم ويتحكّم بالتوجّه. ولعل ما هو أغرب من الغريب أن كثيرين، أحزاباً وكيانات سياسية ومثقفين، يدركون هذا، ومع ذلك، نجدهم متواطئين معه، ما أتاح لـ"السلطة" المضيّ في غيّها والوصول بها إلى حالة "الاستبداد الفج". وكأنهم يريدون القول، ويبلّغوه لانسان هذا المجتمع: لقد عشت زمناً من حياتك كنتَ فيه محكوماً بالخوف، حتى استبدّت بك حالة، ونحن نحرص على أن لا نُحدث التخلخل في واقع حياتك هذا، فنخرجك من حالتك مرة واحدة.. لذا، ندعوك إلى أن تتحمّل!
إلا أن المعضلة أكبر، فقد توقف هؤلاء "السلطويون" الذين قَدِموا مع المحتل، وعدّوا إسقاطه النظام السابق أمراً شرعياً، توقفوا عند "معانيهم الصغيرة" ولم يتجاوزوها، وحين أقدموا على "الممارسة السياسية"، وقعوا في أخطاء أفدح من التي جاؤوا، مع المحتل، بدعوى إنهائها أو تغييرها. وقد حاول "المثقف"، الذي التحق بهم، أن يكون له دور، فإذا هو في كل ما يرى ويقول ويكتب كمَن يُطلق شعارات فارغة في الهواء، ما جعله يستسلم لإحدى حالتين: العجز ـ الذي سيعترف به مَن غادروا البلد ثانية، عائدين إلى حيث كانوا، تفترسهم الغربة، وتُعطّل دورهم، وتفرغهم من أي مضمون حقيقي يمكن أن يكون له تأثير في واقع، أو حيازة لرصيد في التاريخ، والانتهازية، التي ستدفع بعضهم إلى استخدام الكلمة أرذل استخدام، فإذا بمعجمهم فقير العبارة، منهك التعبير، فضلاً عمّا يحيط لغته من مشكوكية في صدق ما تقول، فهو "مفعول" موقف السياسي في بُعد حضوره هذا، وقد تخلى عن "الدور" وأخذ نفسه بـ"المهمة" التي تُوكل إليه من هذا السياسي، ليس غير.. فإذا هو يكتب الكذب المراد تعميمه بطلاقة. وهذا ما يجعلنا في واقع يداعب الانحطاط حاله، ويلعب لعبة التصالح معه من أجل أن يكون هذا الانحطاط حدّ الواقع وبدايته.
أما ما نتج من هذا فهو تبديد الحياة المشتركة للمجتمع العراقي، وتمزيقها من خلال وضعها في صيغ ملتبسة، يجري التعبير عنها بمصطلحات طائفية، أو بلغة "أقوامية" تستنزف من الدماء ما يقف التاريخ مشدوهاً أمامه، لأنه لم يمرّ بمثله إلا قبل ألف عام، يوم دخل المغول بغداد ودمروا "حاضرة الخلافة"، على نحو شبيه.. وكأنهم يريدون لهذا الشعب أن يعيش عند أدنى ما للحياة من شروطها، وألا يرجو إلا أقل القليل.. لا صوت إلا "صوت الاستجابة" لما يُدعى إلى تنفيذه!

 

7D7377FF-D2B6-4FE4-BFE1-A2312E714BB6
ماجد السامرائي

كاتب وناقد باحث عراقي