الحكومة التونسيّة: تحالف "النداء" و"النهضة" قيد الاختبار

04 فبراير 2015
+ الخط -

تتقدّم الحكومة التونسيّة، اليوم الأربعاء، إلى البرلمان لنيل ثقته، بعد رحلة طويلة قطعها حزبا النهضة و"نداء تونس"، للوصول إلى صيغة تشاركيّة، تختلف تسميتها بين من يعتبرها تحالفاً حقيقيّاً، ومن يراها نتيجة طبيعية لإكراهات السياسة ولقاء المصالح في اللحظة السياسية الراهنة التي يمر بها الحزبان.
وبغضّ النظر عن هذه التوصيفات، فإنّ قادة الحزبين، ورغم معارضة جزء كبير من قواعدهما الشعبية، أظهروا براغماتية سياسيّة قصوى في القفز فوق سنتين ونصف من العداء والتنافس الشرس، الذي وضعهما وجهاً لوجه في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، ما مكّنهما من الاستحواذ على المشهد السياسي برمّته و"فسخ" بقيّة المكوّنات السياسيّة الحزبيّة أو ترتيبها بشكل ثانوي تماماً.

ولم ينجُ أحد من هذا الاستقطاب خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، باستثناء الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، الذي سانده جزء كبير من قواعد "النهضة، ويعمل حاليّاً على أن يبصر مولوده السياسي الجديد، "حراك شعب المواطنين"، النور لمعرفة حجمه التنظيمي والشعبي وأثره الممكن على الساحة الحزبيّة الجديدة.

ويعود تاريخ صراع "النهضة" و"النداء" إلى اللحظة الأولى لولادة الحزب الأخير، منذ نحو ثلاث سنوات، حين رأت فيه "النهضة"، على غرار بقية أحزاب الثورة عودة إلى النظام القديم وهيكلة للثورة المضادة في حزب جديد. وزادت من حضوره القوة التنظيميّة الكبيرة، التي اجتمعت حول شخصيّة الباجي قائد السبسي الكاريزماتية، ما جعله يتبوأ سريعاً قيادة الجبهة المناهضة للترويكا، خصوصاً بعد اغتيال محمد البراهمي وتنظيم اعتصام باردو، المطالب بإسقاط حكومة الترويكا التي تزعمتها "النهضة"، ما أسفر عن قيام مؤسسة الحوار الوطني التي انتهت بتشكيل حكومة محايدة.

ولم تتردّد "النهضة" في أولى جلسات الحوار، في رفض الجلوس إلى "النداء" حول طاولة واحدة، لا سيّما أن زعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، كان يعتبر الحزب "أخطر من السلفيين على تونس"، فيما كان السبسي يعتبر النهضة والترويكا "عنواناً للفشل" و"سبباً لأزمة البلاد الاقتصاديّة والأمنيّة".
وشهد خطاب الطرفين تغييراً تدريجيّاً منذ لقاء الشيخين في باريس. قطعت "النهضة" أولى خطوات التقارب الفكري وأصعبها، وقدَّمت على الطريق قرابين كثيرة أفقدتها جزءاً من توازنها الداخلي وبعضاً من قواعدها. قاد رئيسها الغنوشي بداية المراجعة الفكرية والسياسية لموقفه من "النظام القديم" عموماً ومن "النداء" خصوصاً، وفتح باب "التوبة الثورية" لكلّ "من يؤمن بالدستور الجديد" و"تونس ما بعد الثورة". كما وقف شخصيّاً ضدّ قانون العزل السياسي، وضدّ تحديد سنّ الترشّح الرئاسي، وبذل جهداً سياسيّاً ودعويّاً كبيراً من أجل إقناع قواعده بذلك، على الرغم من الثمن المدفوع الباهظ، منطلقاً من مرجعية "فتح مكة" دينيّاً، ومن تجنّب السيناريو المصري سياسيّاً.

ويرى بعض المتابعين، أنّ حركة النهضة فهمت أنّ الحالة الداخليّة والإقليميّة والدوليّة لم تتهيأ بعد، لقبول حركة دينيّة على رأس السلطة ولو ديمقراطيّاً، وأنّ الأمر يحتاج تدريباً طويلاً، وقبولاً على جرعات، وتطبيعاً بطيئاً لوجودها في المشهد السياسي العام وفي ممارسة الحكم. ويفسّر ذلك، وفق وجهة النظر ذاتها، قبولها بالحدّ الأدنى في الحكومة الجديدة، ما يعكس استراتيجيتها من ناحية، وعدم تعطّشها وتلهّفها على السلطة من ناحية أخرى.
وتبدو "النهضة"، في الوقت ذاته، مستميتة في الدفاع عن الحالة الديمقراطيّة والانتخابات الحرة، وإرساء تقليد الاعتراف بالفائز والتسليم السلمي للسلطة، تمهيداً للمستقبل وإقناعاً للرأي العام الدولي، بأنّها حركة حديثة تقبل قواعد اللعبة الديمقراطية، وهو ما خلق تميّزها دوليّاً ووفّر لها الاحترام في عواصم غربية عديدة، بدأت تؤمن بأنّ "النهضة" مختلفة بالفعل. ولم يكن لهذه الخطوات أن تكون بلا ثمن "نهضويّاً"، فتعالت أصوات في داخلها وانسحبت أخرى، ولم ينتهِ جرد الحساب بعد.

على كفّة الميزان الثانية، وبعدما قام حزب "نداء تونس" على فكرة مناهضة الفكر "النهضوي" وإسقاط الترويكا وجمع "العائلة الديمقراطيّة" في مواجهة الرجعيّة والتيارات المتشدّدة وحاضناتها، لم يتأخر عن القيام بخطوات مماثلة نحو التطبيع مع "حركة النهضة". وبعدما تزعّم السبسي في البداية حملة الاعتراف بالآخر، الذي "يمثّل جزءاً كبيراً من التونسيين"، تقاسمت معه بعض قيادات النداء، الدستورية تحديداً وحتى اليسارية منها، هذا الفهم السياسي البراغماتي الذي "لا يمكن أن يتجاهل أكثر من 30 في المائة من أصوات الناخبين". وفيما تعالت أصوات من داخل النداء وخارجه، معتبرة ما جرى "خيانة للناخبين" وتنكراً "للأصدقاء والأنصار"، حسم السبسي، مساء الأحد الماضي، ما خطط له في الواقع، منذ أشهر، وقطع الطريق نهائيّاً أمام تيار كبير عارض إشراك النهضة في الحكومة، بثمن كبير أيضاً، سيتحدّد حجمه مع مدى فشل أو نجاح الرهان الحكومي.

وعلى الرغم من أنّ النهضة لا تشارك في الحكومة بما يتناسب مع حجمها الطبيعي، كحزب ثان في البرلمان، فإنّ الحديث عن الحكومة يكاد ينحصر في هذا التحالف الجديد، بتركيز كبير يكاد يخفي مرة أخرى بقية المشهد. وتبقى التساؤلات منطقية وكبيرة، هل الشراكة الحكوميّة صادقة حقيقة أم هي لعبة السياسة وما قد ينجر عنها من تقلبات ممكنة؟ وهل تتقاسم القواعد من الجهتين هذا التقارب؟ وأخيراً، هل هو تحالف أم هدنة أم مهادنة؟ الأكيد أن الطرفين يخوضان امتحاناً صعباً للطرفين يتجاوز مجرد الفكرة السياسية إلى مستقبل الناس وحياة التونسيين.

المساهمون