الحقيقة والفضيحة في التعذيب وحقوق الإنسان

15 سبتمبر 2017
+ الخط -
في المسألة التي أثارها كاتب هذه السطور في مقالات سابقة في "العربي الجديد" بشأن حقوق الإنسان، والتي توالت بشأنها التقارير تباعا، جاء تقرير مناهضة التعذيب لأعلى لجنة في الأمم المتحدة واضحا، فيما يتعلق بالعمل الممنهج في التعذيب في سجون مصر، وأقسام شرطتها، وأماكن الاحتجاز فيها، فضيحة مدوية وحقيقة دامغة في آن، ذلك أن المنظومة الانقلابية اعتادت على طرق مختلفة من الإنكار والاستنكار. وقد أنكرت تلك السلطات مدّعية أنّها لا تمارس مثل هذا التعذيب، على الرغم من أدلة وقرائن واضحة وقاطعة، بل إنها تصور نفسها دولة راعية لحقوق الإنسان، على الرغم من الصورة القاتمة التي تصدّرها في العالم أجمع بشأن انتهاكاتٍ يوميةٍ للحقوق الإنسانية التأسيسية ليل نهار، تبدأ بالصعق وخلافه، وتنتهي بالقتل المادي والمعنوي، في إطار إذلال المعتقلين، على الرغم من نوعية هؤلاء، سواء أكانوا أصحاب مؤهلات راقية، أم مهن عالية، أم تخصصات طلابية في كليات سامية، وترى أيضا في أرجاء تلك المعتقلات شبابا ناهضا يتوق إلى التغيير ونهوض الوطن، فإذا به يوضع تحت تلك الضغوط المعنوية والتعذيب الجسدي والمادي، في محاولة لكسر إرادتهم، والنيل من صمودهم، ذلك أن هؤلاء الزبانية الذين اعتادوا على سلوك التعذيب يتدربون عليه، ويستوردون أدواته، ويقام ذلك من أعلى جهات رسمية، سواء بالتواطؤ أو التحريض أو الأمر المبطن أو الظاهر، عمليات تؤكد الطريقة الممنهجة باتخاذ هذا الأسلوب القذر، في محاولة النيل من كرامة الإنسان وحرمة النفس والكيان.
جاء تقرير الأمم المتحدة ضربة قاضية لتلك الطرق الملتوية والملتفة، في خطابٍ متحايل، يغلف إنكاره باستنكار، ويلقي الاتهامات إسقاطا ودفاعا عن بطش النظام وطغيانه وممارساته المفضوحة، قبل الإنسان المصري. ويحاول أن يغطي ذلك كله بمقولته التي وجدها فرصة للتلاعب والاحتيال، وتثبيت منظومته، ومحاولة استجداء غطاء لشرعيته. إنها مقولة الإرهاب حينما تستغل وتوظف توظيفا خطيرا وحقيرا في محاولةٍ لإقناع الخارج بأنه يؤدي المهمة
الكبرى التي تصبّ في مصلحتهم وتحقق كل أهدافهم، ولا يتوانى في ذلك أن يستخدم كل أشكال الانتهاكات، من أصغرها إلى أكبرها، في عملية ترويع ممنهجة.
جاء التقرير صفعة على وجه النظام الفاشل الفاجر، بما يعبر به عن سياسات تتحرّك من جوف الطغيان والاستبداد، لتؤسس لدولة بوليسية بامتياز، مطلقة اليد في التبذير، ومحاولتها لإرهاب مجتمع بأسره، وإرهاب أي شكل من أنواع المعارضة، والاستجداء أيا كان مصدره، ومهما كان صغره. جاء هذا التقرير لا يحتمل خطاب النظام في مصر بالإنكار أو الاستنكار. إنه تقرير صادر عن لجنة تحقيق تؤكده تقارير سابقة، وتواتر كل هذه التقارير حول التعذيب باعتباره سياسة دولة، وخطة ممنهجة. هل يستطيع النظام أن يتهم منظمة الأمم المتحدة بالتسييس والتحيز، كما اتهم تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش؟ وعلى الرغم من أن هذا السؤال يفيد بأن لا كلام بعد ذلك، إلا أن منظومة الفجور الإعلامي مارست مغالطتها، وأكدت أن هذه المنظمة لا تصدر تقارير نزيهة وعادلة. هكذا لا يقبل الجلاد ولا الطاغية وجوقة المستبد أي طرفٍ يمكنه الكشف عن فضيحة هذا النظام وأفعاله التي لم تعد خافية على أحد.
بل خرج بعضهم ليتحدث، وبشكل فاجر وفاضح، بلغةٍ تطالب بكل من تحدث في ذلك الملف أن يغلق فمه، ذلك أن الوطن، على حد قولهم، في خطر ولا يحتمل هذا الكلام، ولا يحتمل أن يتهم النظام في ذلك. بالله عليكم، كيف يرى هؤلاء الوطن، إلا أن يكون محل استباحة بمواطنه وإنسانه، يفعل فيه ما شاء وأنّى شاء، من غير مساءلة أو تعقيب، من غير حساب أو عقاب، يموت المواطن في عرفه، ويحيا الوطن. هذه هي وطنيتهم لا تكون إلا بممارسة القتل، وإراقة الدماء، بإهانة الكرامة والشرف، بالنيْل من الإنسان والكيان.. فهل هذا هو الوطن؟ وتلك هي المواطنة، وهذا هو الإنسان الذي نريد؟ تعرفون الآن كيف أن ثورة مضادة اختطفت هذا الوطن، بأهله وشعبه، كعصابة أرادت أن تتصرف في كل أرجاء الوطن كأنه عزبة تخصهم، ومثل عصابة تمارس كل جرائمها، وتعتبر ذلك حقا لها، وتعتبر كل من احتج أو تأوه يستحق العذاب، أو التعذيب على طريق القهر والقتل.
ثم جاءت الصفعة الأخرى والكبرى من رئاسة جهاز الشرطة الدولية (الإنتربول) الذي رفع أغلب من كانوا على قوائمه، لتأكده، مع وجود هذه التقارير وغيرها، أن النظام في مصر لا
يمكن تصديق اتهاماته لمواطنيه، ذلك أن أخبار التعذيب التي تترى، وتأتي من هنا وهناك، تؤكد فجور هذا النظام، وقدرته على التلفيق، وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب، وجهاز قضائي ممثل في بعض قضاة صاروا ألعوبةً في يد النظام، لا يفعلون من عملٍ إلا بتلقي الأوامر، حتى "أن الحكم بعد المكالمة"، هذه الكلمات البسيطة التي يرددها رجل الشارع العادي تلخص فجور هذا النظام، بمنظومته الشرطية والقضائية والإعلامية، وهو ما حدا بتلك المؤسسة أن ترفع تلك الأسماء من قوائمها، لتتناغم في ذلك مع بيانات متتالية تكشف انتهاكاتٍ واضحة وفاضحة لحقوق الإنسان في تقارير متوالية من منظمات غير حكومية ومنظمات أممية وأجهزة دولية رسمية.
ماذا يفعل النظام، بعد أن ضاقت عليه الأرض، وحصر في الزاوية. قام بتصفية عشرة من الشباب بالاتهامات المفبركة نفسها لتبرير فعله الشائن بالقتل خارج إطار القانون، والذي تشير أجهزة الداخلية إليه ببجاحة بـ"التصفية"، وأعقب ذلك عمل إرهابي ضد الجنود في شمال سيناء على طريق العريش، ليصطنع النظام صورة عهدناها ومفضلة لديه؛ صورة أراد أن يرسمها في محاولة للهروب، لكنها محاولة فاشلة، فما عاد ذلك كله يخيل على المواطن المصرية، ولا على المجتمع العالمي، بل يعبر هذا كله، في حقيقة أمره، عن فشله وتقصيره في حق جنوده، ويمارس فجوره وبطشه في حق مواطنيه، نظام اعتاد أن يرى إراقة الدماء، ويسهم بإراقتها تارة بفشله، وتارة أخرى ببطشه وفجوره. من أجل ذلك، استحق هذا النظام أن يوصف بالنظام الفاشي الفاشل، وفي يوم قريبٍ ستحين ساعة الحساب والعقاب.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".