31 ديسمبر 2021
الحصار ثقافة الطغاة المحاصَرين
الحصار هو لغة الضعفاء، لغة الخائفين. لذا، هو لغة الطغاة الرخيصة مثلهم، وهو يدل على أن من يستخدم هذه اللغة قد أصبح أيضاً محاصراً بخوفه العميق، وبضعفه الحقيقي الذي يحاول أن يخفيه، ولعل حصار وادي بردى اليوم ليس إلا سلاحا آخر، لا أخيراً، يستخدمه النظام السوري الدموي، ليفرض وجوده المكاني على أراضيها، بعدما فرضه على مدن ومناطق كثيرة أخرى، "انتصر" فيها وسيطر على ما تبقى منها من خراب.
ليس مفهوم الحصار، كسلاح رخيص، جديداً في طريقة تعامل هذا النظام مع شعبه، إنما هو ليس إلا حلقة جديدة من سلسلة حصاراتٍ بدأت عائلة الأسد بتطبيقها منذ اليوم الأول لتسلمها مقاليد الحكم في سورية. فمع بداية حكم الأسد الأب، بدأت سلطاته الأمنية الفاشية بالتضييق على الناس في كل مجالات الحياة، ليصل هذا التضييق إلى بناء جدرانٍ عازلةٍ تحبس العقول ضمن منظوماتٍ محدّدة يُمنع الخروج منها، كما يمنع طرح الأفكار المخالفة لها، أو حتى استقبال أفكارٍ جديدةٍ قد تشكل خطراً على الهيكل المرسوم، أو على "استقراره"، ما جعل حالة الرعب تشكل حالة حصار خانقة استمرت عشرات السنوات، وجعلت كل مواطن سوري محاصراً بهاجس الاعتقال، أو الذهاب إلى فرع الأمن، ومحاصراً أيضا بحالة الشك بزميله، وصديقه، وشك صديقه وزميله فيه، وجعل كلاً منا محاصراً داخل نفسه.
ومع تقدّم حكم الأسد وتراجع البلاد على كل المستويات، أخذت تلك المنظومات أشكالاً مختلفة، عمل بعضها على إيهام الناس بوجود هوامش للحرية، لكنها، في واقع الأمر، ربطت الجميع،
بطريقةٍ أو بأخرى، لتحافظ عليهم داخل هذا السجن الكبير الذي سمّي فترة طويلة باسم سورية، ثم عُدل الاسم ليصبح "سورية قلعة المقاومة"، بعد إيجاد منظومة أخرى بجدران صماء، عُلّقت عليها تهم جاهزة، وصلت إلى حد "الخيانة العظمى" لمن يحاول تخطيها.
كان حصار السجون الحقيقية أو المعتقلات أيضاً شكلاً آخر للحصار، فمن لم تردعهم سجون الفكر الوهمية، وارتكبوا معصية الرفض أو حتى النقاش، كانت الزنازين الباردة المظلمة بانتظارهم، وهناك تُحاصر الأرواح والأجساد، ليقتلها التعذيب والرعب والمرض والجوع والعطش للحرية.
حصار المدن الذي انتهجه النظام خلال سنوات الثورة، والذي سبق أن طبقه على حماه في ثمانينيات القرن الماضي، هو أوضح الأشكال وأقساها وأكثرها بطشاً وحصداً لأرواح المحاصرين وملامح مدنهم. وهناك أيضاً حصار الثورة السلمية المدنية، من خلال قتل كل رموزها الذين كانوا يرفضون الحل العسكري، واعتقالهم ونفيهم وتصفيتهم، وهم الذين كانوا يحاولون حماية هذه الثورة التي تحمل كل ألوان قوس قزح من أن تنحصر برايات اللون الأسود، وأن يشوّه النظام صوتها الحقيقي، لكن خذلان العالم وحصار النظام هذه الثورة، وانهيار رموزها ومفكريها وإبعادهم أدخلها أيضاً في حالةٍ من العجز والحصار، جعلت السوري المظلوم المغدور يذهب إلى أية جهةٍ يمكن أن تقدم له أية دواعم لانتصارٍ وهمي، ناسيا دوافع هذه الجهة، مقرّرا فقط الانتقام لعجزه، ولظلمه، لجوعه، وموته، وحصاره الطويل.
يوازي عمر الحصار في سورية عمر الدكتاتورية فيها، ونعرف أنه قد يطول قليلاً بعد اندثارها، ليواكب دكتاتورياتٍ أخرى قد تستبيح البلاد، لكن التاريخ يؤكد أن لا حصار قادر على الاستمرار إلى الأبد، لأن الذي يحاصر هو محاصر أيضاً، وكل هذا محكوم بالعفونة والموت، كما لا دكتاتورية قادرة على الحياة إلى الأبد، فالدكتاتورية، مهما طالت، هي الأم الحقيقية للثورات التي ستنبت منها عليها وتدحضها.
تتعرض اليوم منطقة وادي بردى السورية الجريحة لحصار الجوع والعطش، ونقص الدواء
المترافق مع الموت العشوائي الذي تلقيه عليها الطائرات الروسية على مدار الساعة. وأضحت منطقة وادي بردى رمزاً لآخر المعاقل التي سيهوي مع سقوطها حلم السوريين الثائرين، وحلم الشهداء تحت التراب الذين ما زالت ورود المقبرة تكملةً لهم، كما سيسقط مع سقوط أهالي وادي بردى حلم من لم يزل في المعتقلات، وقد كان الحلم وحده القادرعلى إيجاد سماء في الزنازين، وعلى جعل ألم التعذيب أقل، سيسقط أيضاً حلم كل اللاجئين المشردين الذين لم يزل هذا الحلم يبقيهم على قيد الأمل، وستسقط مع وادي بردى آخر أوراق التوت التي تغطي عورة الإنسانية والعالم الصامت خذلانا وعجزا.
لقد تمرّد السوريون على نظامهم الدكتاتوري القمعي، وثاروا على كل الجدران التي حاصرتهم، حطموها وحدهم، ووحدهم مازالوا يحاولون أن يقوموا، من تحت ذلك الحطام. ولقد خذل العالم كله ثورتهم النبيلة، لكنهم اليوم أو غداً أو بعد غد، أو بعد زمن، لا بد أنهم سيكسرون حصارهم الأخير هذا، فهم روح الأماكن، وهم تاريخها، وهم أشجارها، وهم أصحاب الأبواب العالية، وهم الأن نار الإحساس القاتل بالظلم والغدر التي تغلي قي كل الصدور، والتي ستبقى مشتعلةً إلى أن يقوموا من جديد من تحت الرماد.
ليس مفهوم الحصار، كسلاح رخيص، جديداً في طريقة تعامل هذا النظام مع شعبه، إنما هو ليس إلا حلقة جديدة من سلسلة حصاراتٍ بدأت عائلة الأسد بتطبيقها منذ اليوم الأول لتسلمها مقاليد الحكم في سورية. فمع بداية حكم الأسد الأب، بدأت سلطاته الأمنية الفاشية بالتضييق على الناس في كل مجالات الحياة، ليصل هذا التضييق إلى بناء جدرانٍ عازلةٍ تحبس العقول ضمن منظوماتٍ محدّدة يُمنع الخروج منها، كما يمنع طرح الأفكار المخالفة لها، أو حتى استقبال أفكارٍ جديدةٍ قد تشكل خطراً على الهيكل المرسوم، أو على "استقراره"، ما جعل حالة الرعب تشكل حالة حصار خانقة استمرت عشرات السنوات، وجعلت كل مواطن سوري محاصراً بهاجس الاعتقال، أو الذهاب إلى فرع الأمن، ومحاصراً أيضا بحالة الشك بزميله، وصديقه، وشك صديقه وزميله فيه، وجعل كلاً منا محاصراً داخل نفسه.
ومع تقدّم حكم الأسد وتراجع البلاد على كل المستويات، أخذت تلك المنظومات أشكالاً مختلفة، عمل بعضها على إيهام الناس بوجود هوامش للحرية، لكنها، في واقع الأمر، ربطت الجميع،
كان حصار السجون الحقيقية أو المعتقلات أيضاً شكلاً آخر للحصار، فمن لم تردعهم سجون الفكر الوهمية، وارتكبوا معصية الرفض أو حتى النقاش، كانت الزنازين الباردة المظلمة بانتظارهم، وهناك تُحاصر الأرواح والأجساد، ليقتلها التعذيب والرعب والمرض والجوع والعطش للحرية.
حصار المدن الذي انتهجه النظام خلال سنوات الثورة، والذي سبق أن طبقه على حماه في ثمانينيات القرن الماضي، هو أوضح الأشكال وأقساها وأكثرها بطشاً وحصداً لأرواح المحاصرين وملامح مدنهم. وهناك أيضاً حصار الثورة السلمية المدنية، من خلال قتل كل رموزها الذين كانوا يرفضون الحل العسكري، واعتقالهم ونفيهم وتصفيتهم، وهم الذين كانوا يحاولون حماية هذه الثورة التي تحمل كل ألوان قوس قزح من أن تنحصر برايات اللون الأسود، وأن يشوّه النظام صوتها الحقيقي، لكن خذلان العالم وحصار النظام هذه الثورة، وانهيار رموزها ومفكريها وإبعادهم أدخلها أيضاً في حالةٍ من العجز والحصار، جعلت السوري المظلوم المغدور يذهب إلى أية جهةٍ يمكن أن تقدم له أية دواعم لانتصارٍ وهمي، ناسيا دوافع هذه الجهة، مقرّرا فقط الانتقام لعجزه، ولظلمه، لجوعه، وموته، وحصاره الطويل.
يوازي عمر الحصار في سورية عمر الدكتاتورية فيها، ونعرف أنه قد يطول قليلاً بعد اندثارها، ليواكب دكتاتورياتٍ أخرى قد تستبيح البلاد، لكن التاريخ يؤكد أن لا حصار قادر على الاستمرار إلى الأبد، لأن الذي يحاصر هو محاصر أيضاً، وكل هذا محكوم بالعفونة والموت، كما لا دكتاتورية قادرة على الحياة إلى الأبد، فالدكتاتورية، مهما طالت، هي الأم الحقيقية للثورات التي ستنبت منها عليها وتدحضها.
تتعرض اليوم منطقة وادي بردى السورية الجريحة لحصار الجوع والعطش، ونقص الدواء
لقد تمرّد السوريون على نظامهم الدكتاتوري القمعي، وثاروا على كل الجدران التي حاصرتهم، حطموها وحدهم، ووحدهم مازالوا يحاولون أن يقوموا، من تحت ذلك الحطام. ولقد خذل العالم كله ثورتهم النبيلة، لكنهم اليوم أو غداً أو بعد غد، أو بعد زمن، لا بد أنهم سيكسرون حصارهم الأخير هذا، فهم روح الأماكن، وهم تاريخها، وهم أشجارها، وهم أصحاب الأبواب العالية، وهم الأن نار الإحساس القاتل بالظلم والغدر التي تغلي قي كل الصدور، والتي ستبقى مشتعلةً إلى أن يقوموا من جديد من تحت الرماد.
دلالات
مقالات أخرى
03 سبتمبر 2021
21 مايو 2021
17 ابريل 2021