الحرم القدسي.. نذر صراع دائم

11 يوليو 2015

جموع فلسطينية تصلي الجمعة الحرم القدسي (2 يوليو/2015/لأناضول)

+ الخط -
مع حلول شهر رمضان الجاري، واقتراب موعد الأعياد اليهودية، بدأت التوترات بالتصاعد، ولو بشكل طفيف، في الحرم الشريف، والذي يسميه اليهود جبل الهيكل. وكان هذا الموقع قد بدا، في أواسط عام 2014، وكأنه سيشكل مركز انطلاق الانتفاضة الفلسطينية التالية، أو حتى مركزصدام أوسع بين اليهود والمسلمين. وتعتقد إسرائيل أن الهدوء النسبي الذي يسود، منذ بداية العام، وضع يمكن أن يدوم، إذا امتنع الوزراء وأعضاء الكنيست عن الدفع نحو تغيير الترتيبات الراهنة، كما فعلوا العام الماضي. حتى لو تبيّنت صحة ذلك في موسم الأعياد، فمن غير المرجح أن يستمر هذا الهدوء. في حين كانت حركة نشطاء جبل الهيكل محورية في اندلاع الجولة الأخيرة من الاضطرابات، فإن الأهمية الدينية للحرم الشريف والنزاع السياسي حوله، خصوصاً بين اليهود، ولكن بين المسلمين أيضاً، كانت في ازدياد مستمر على مدى العقدين الماضيين. ولقد أدى هذا إلى انهيار ترتيبات الوضع الراهن التي حافظت على السلام بدرجة كبيرة منذ احتلال إسرائيل القدس الشرقية عام 1967. والآن، يجب منع المزيد من انهيار الوضع الراهن ودعمه.
يشكل هذا الموقع، وهو الأقدس لدى الديانة اليهودية، وثالث أهم المقدّسات في الإسلام بعد مكة والمدينة، والذي يضم قبة الصخرة والمسجد الأقصى، عالماً مصغّراً للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني؛ حيث يشهد فورات متكررة من العنف، لا تنتهي أبداً بشكل حاسم، بل تتلاشى وتخفت. وبصفته إحدى قضايا الوضع النهائي في عملية سلام مسدودة، يبقى وضعه غير واضح، الأمر الذي استغلته إسرائيل لتوسع سيطرتها. الموقع، الذي يخضع لإدارة لجنة إسرائيلية ـ أردنية مشتركة، يشكّل مثالاً على إقصاء الفلسطينيين عن عاصمتهم، وعلى عدم قدرة حركتهم الوطنية المنقسمة على الدفاع عنها بشكل حقيقي. وبوصفه موقعاً يشكل إحدى الدعامات الجوهرية للديانة اليهودية، وذا أهمية مركزية بالنسبة للمسلمين، فإنه يشكل منطلقاً للإنكار العربي للتاريخ اليهودي وعلاقة اليهود بالأرض المقدسة، وكذلك للرفض اليهودي، خصوصاً في الدوائر الدينية، لأية علاقة له بالفلسطينيين والمسلمين. وبوصفه الرمز الأيقوني الوطني والديني للطرفين، فإنه يُظهر الثقل المتنامي للمعسكر الصهيوني الديني في إسرائيل، والأصوات الإسلامية في الأوساط الفلسطينية.
وللحرم الشريف خصوصياته. إنه المكان الوحيد في الضفة الغربية الذي للأردن دور رسمي فيه، والذي يستطيع فيه فلسطينيو القدس تنظيم أنفسهم بدرجة من الاستقلالية النسبية. كما أن حساسية الموقع تضخّم الأحداث التي تقع في أماكن أخرى. وبينما لا تزال ذكريات الانتفاضة الثانية التي بدأها أرييل شارون باستباحته الحرم مع مئات من قوات الأمن حيّة في الذاكرة، فإن كثيرين يعتقدون أن ما من طريق أسرع إلى نشوب مواجهة كبرى من حدوث أعمال عنف في هذا الموقع. كان الحرم محور تركيز اليمين الإسرائيلي، خصوصاً العناصر الدينية الصهيونية التي باتت تركز عليه بشكل متزايد بعد اتفاقيات أوسلو عام 1993 وانسحاب إسرائيل من غزة عام 2005. ولأنه يبرز احتمالات اندلاع العنف، وخطوط التصدّع في كلا المجتمعين، وإخفاقات العملية السياسية، فإن الحرم يتطلب الاهتمام وبشكل عاجل.

في الوقت نفسه، قد يوفر إلحاح هذه القضية ربما إشارة إلى كيفية إعادة إحياء عملية السلام المنهَكة. قد يبدو هذا مفاجئاً وغريباً للوهلة الأولى، حيث يشكل الموقع إحدى أصعب قضايا الوضع النهائي، كما أن ارتباط إسرائيل به بات أقوى من أي وقت مضى. إنه يدفع الإسرائيليين، اليمينيين واليساريين، إلى الاعتقاد أن اليهود الذين يعيشون في دولة يهودية، يواجهون قيوداً على ممارسة طقوسهم في أقدس مواقعهم الدينية. مدة عقود بعد عام 1967، اكتفت إسرائيل بالمحافظة على وضع راهن، يدخل بموجبه اليهود إلى الموقع من دون اعتراض من الأردنيين، وتظلّ الصلاة محظورة على غير المسلمين. أما اليوم فإن معظم السلطات الدينية الصهيونية تشجّع على دخول اليهود إلى الحرم؛ وعلى الرغم من الاعتراضات العميقة من اليهود المتشددين، فإن لديها حلفاء علمانيين يعتقدون أنه لا يجوز الانتقاص من "سيادة" إسرائيل وحريّة العبادة.
بالنسبة للفلسطينيين، ينذر الاهتمام اليهودي المتزايد بالحرم ووجود الإسرائيليين فيه بما هو متوقع تماماً. بداية بتدنيس عدد من الجوامع وغيرها من المواقع المقدسة، بعد حرب عام 1948، ومروراً بتقسيم المسجد الإبراهيمي في الخليل، من أجل السماح لليهود بالصلاة في كهف البطاركة (مغارة المكفيلة)، فإن الفلسطينيين فقدوا تدريجياً السيطرة على مواقعهم الدينية ورموزهم الوطنية. أصبحت المواقع التاريخية والدينية اليهودية في القدس الشرقية بؤراً للسيطرة الإسرائيلية، وباتت تجتذب الحضور اليهودي الذي يفرض على المحيط العربي طابعاً أمنياً ويُشعر السكان بالمرارة. ويعتقد فلسطينيون أن وقفتهم الأخيرة ستكون في الأقصى، في مدينة خسروها أصلاً.
مع تراجع التنسيق، ونظراً للتفسيرات المتعارضة للوضع الراهن التي تدفع المعنيين به إلى حماية مصالحهم عن طريق إحداث الأزمات، باستخدام الحجارة، أو قوات الأمن أو الدبلوماسية، فإن الوضع الراهن الذي وُضع التصوّر الأول له في يونيو/حزيران 1967 قد يبدو قديماً وغير ذي صلة، لكنه يبقى موضع الإجماع الوحيد حول الحرم. ومن أجل تعزيز استقرار الموقع، ينبغي تعزيز قوة الوضع الراهن. وهذا يشمل:
إمكانية الوصول. أصبح الوجود اليهودي في الحرم موضع نزاع فقط عندما تم تقليص وصول المسلمين إليه بشكل كبير. إن السماح بوصول الجميع هو أفضل طريقة لضمان وصول كل من المجموعات المعنية.
الصلاة. لا ينبغي إحداث أي تغيير أحادي على نظام الصلاة، وهو العنصر الأكثر قابلية للانفجار في نظام الوضع الراهن. وهكذا، وإلى أن تتمكن إسرائيل، والأردن والفلسطينيون من الاتفاق على إحداث تغيير، لا ينبغي السماح لغير المسلمين، بما في ذلك اليهود، بالصلاة في الموقع.

الآثار والأشغال العامة. على قادة كلا الطرفين إدانة الادّعاءات الخطيرة التي يعبّر عنها جمهوراهما؛ أي الادعاءات المنتشرة في إسرائيل التي تقول إن أعمال الصيانة الأردنية التي قامت بها الأوقاف الإسلامية التي تدير الأماكن المقدّسة تدمّر قطعاً أثرية يهودية؛ وفي أوساط الفلسطينيين والأردنيين والعرب بشكل عام، أن إسرائيل تخطط لتدمير المسجد الأقصى.
المشاركة الفلسطينية. الوضع الراهن هو تفاهم إسرائيلي ـ أردني يستثني الفلسطينيين. لذلك، تفتقر اللجنة الأردنية إلى المصداقية في القدس. على الرغم من أن المشاركة الرسمية للسلطة الفلسطينية لن تكون مقبولة لإسرائيل، فإن تشكيل هيئة استشارية تتكون من شخصيات فلسطينية بارزة في القدس قد يمنحها درجة من السلطة، يمكن أن تساعد في استقرار المدينة.
أما الرؤية الأكثر جرأة فتتمثل في النظر إلى الموقع نقطة انطلاق لإعادة تخيّل متطلبات التوصل إلى السلام. وهذا يشمل إشراك المجموعات المهمَّشة والقضايا المستثناة، مثل الصهاينة المتدينين في إسرائيل، واللاجئين الفلسطينيين، وسكان القدس الشرقية والمواطنين العرب في إسرائيل. يمثل الحرم الشريف مكاناً يمكن أن يحيط بالأبعاد الدينية والسردية للصراع، والتي تزايدت أهميتها. الحوار الديني، داخل كل مجتمع ودين، وبين الدينين والمجتمعين، إذا كان ذلك ممكناً، وعندما يصبح ممكناً، أمر محوري لتسوية الصراع. وهو مهم أيضاً لإدارة الموقع إلى أن يحين وقت إجراء ذلك الحوار.
سيكون من الصعب التوصّل إلى اتفاق حول الحرم، أو استدامته إذا تم التوصل إليه، من دون دعم رجال الدين. لكن، مع وجود احتمالات كبيرة لاندلاع العنف، فإن ثمة ما يدعو للتركيز في البداية على الأساسيات، وذلك بتوفير بيئة مستقرة تعطي الفرصة للشروع ببناء عملية جديدة. مع موت عملية السلام الحالية، واستعداد الحكومة الإسرائيلية للعيش بدون مثل تلك العملية، وحيث إن حدوث تصعيد كبير في غزة أمر محتمل دائماً، ومع انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية، وتشتت الاهتمام العالمي على حرائق المنطقة، فإن تهدئة المحور الرمزي للصراع أمر مهم.
avata
مجموعة الأزمات الدولية

مركزي بحثي يضم خبراء في عدة اختصاصات مقره بروكسيل