تدرك وزارة الخارجية الإسرائيلية، وفروعها المسؤولة عن الإعلام والمرتبطة بصورة وثيقة بالمؤسسة العسكرية والأمنية، أنها تقف أمام مهمة صعبة لتغيير اتجاه الرياح التي بدأت تبدّل مسار الرأي العام العالمي والأميركي تجاه ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين، وخصوصاً بعد الحرب الأخيرة على غزة.
وأجبر العدوان الأخير على غزّة، كبرى الصحف ومحطات التلفزة الأميركية على تغيير نهجها في تغطية الأحداث في فلسطين المحتلة بفعل الاحتجاجات والانتقادات الشديدة من الناشطين من جهة، ولضراوة ووحشية العدوان من جهة أخرى. وبالرغم من ذلك، فإن "النجاحات" تبقى قصيرة الأمد في ما يتعلق بتأثيرها المثمر على المدى البعيد، كالتأثير على الرأي العام الأميركي والسياسة الأميركية الخارجية والانتخابات الرئاسية الأميركية مثلاً.
وتعوّل المؤسسات الرسمية الإسرائيلية والمنظمات الداعمة لها في الولايات المتحدة على "قصر الذاكرة"، إلا أنها تواجه في الوقت ذاته "مأزقاً" آخر تضعه أمامها حركات مدنية داعمة للقضية الفلسطينية. ولعلّ أبرزها، الحركة الطلابية الفاعلة في الجامعات الأميركية والداعمة للقضية الفلسطينية. وتكمن أهميتها في استهدافها الشباب الأميركيين والجيل المقبل من الناخبين والقيادات الشابة في المجتمع، ومن بينهم الشباب اليهود في أميركا.
أما الحركة الثانية، فهي "حركة المقاطعة العالمية" الداعمة للشعب الفلسطيني، "بي دي أس"، والتي بدأت تسجل نجاحات تذكّر بتلك التي سجّلها السود في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، الـ"أبارتهيد"، في بلادهم والحملة العالمية التي آزرتهم.
وفي هذا الصدد، كثّفت الخارجية الإسرائيلية والمنظمات الصهيونية الداعمة لها، في السنوات الأخيرة، جهودها بغية الوقوف أمام تنامي تأثير الحركات الداعمة للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة.
وتُرجمت الجهود على شكل مشاريع مختلفة، ومن ضمنها ما تقوم به "مؤسسة شالوم هارتمان" الأميركية الصهيونية التي بدأت تستهدف مسلمين أميركيين نشطاء وقادة في الجاليات المسلمة، لكسب تأييدهم للصهيونية تحت ذريعة "حوار الأديان".
وتنظّم المؤسسة زيارات ومنح تعليمية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 كي "يتعرفوا على اليهودية وعلاقتها بالصهيونية وإسرائيل وكي يدرسوا كمسلمين مؤمنين الصهيونية/ اليهودية وأهمية إسرائيل لها". ولا تخفي المؤسسة إيمانها المستميت بالفكر الصهيوني وتحاول تسويق إسرائيل كممثلة لكل اليهود، والصهيونية كمرادفة لليهودية.
وأشارت الصحافية كاتبة العامود الدوري في صحيفة "ذا ايسلاميك مونثلي"، سارة سعيد، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن "مؤسسة شالوم هارتمان لم تخفِ معاداتها لحركة المقاطعة، وهي تضع محاربة الحركة على سلّم أولوياتها. كما أنشأت في العام 2010، مشروعاً مع منظمة "أيباك"، أقوى لوبي صهيوني في الولايات المتحدة، لرفع شعبية واهتمام الجاليات اليهودية في الخارج بإسرائيل ودعمهم لها".
كذلك، توضح سعيد أن الفاعلين في المؤسسة أشاروا، في أكثر من مناسبة، إلى أن أحد الأهداف الرئيسية للمؤسسة هو "التصدي للخطر الناجم عن حركة المقاطعة، وخصوصاً في الجامعات الأميركية وبين الطلاب، ومحاربة الحركة بالأفكار والتربية، والعمل على إعادة شعبية الصهيونية الآخذة بالتدهور بين اليهود في العالم".
ضمن هذا السياق يمكن رؤية استهداف مؤسسات صهيونية، كـ"مؤسسة شالوم هارتمان"، نشطاء وقادة في الجاليات المسلمة في الولايات المتحدة لتجنيدهم بغية دعم الحركات الصهيونية أو عدم معارضتها في أسوأ الأحوال. وأولى الثمار كانت مقالاً من أحد المشتركين من المسلمين الأميركيين يهلّل للصهيونية.
"ما تعلّمته مسلمة أميركية من الصهاينة"، كان عنوان مقال لربيعة شودري، وهي، كما يشي العنوان، مسلمة أميركية من أصول باكستانية اكتشفت "أخيراً إنسانية الصهيونية". نشرت شودري مقالها في 24 يونيو/ حزيران الماضي في مجلة "تايم" الأميركية المعروفة.
تبدأ شودري مقالها بالحديث عن ترددها في قبول المنحة، وتذكر أن ذلك جاء بالدرجة الأولى لأن المؤسسة المنظمة للموضوع معروفة بمجاهرتها بفكرها الصهيوني. ومن ثم تنتقل للحديث عن ماضيها كمسلمة أميركية وناشطة حقوقية، فتكتب في مقالها أنها كانت في الماضي معادية للصهيونية، لأنها "ترمز بالنسبة لنا (المسلمون) إلى قمع الفلسطينيين ونكبتهم. كما أنها (الصهيونية) ترمز للتطهير العرقي والاحتلال العنيف والحواجز العسكرية والإذلال اليومي والمعتقلين السياسيين والعقاب الجماعي والموارد المسروقة. لقد كنت دائماً معادية للصهيونية وفخورة بذلك".
ولكنها "اكتشفت" أن الصهيونية ليست كذلك، وتعني لليهود أمراً آخر: "عودتهم من الشتات بعد الآف السنين إلى أرض الميعاد لتقديس الله...". ولا يقتصر مقالها على مغالطات تاريخية وتقمُّص الخطاب الصهيوني فحسب، بل يظهر جهلاً تاماً بتاريخ الصهيونية نفسها.
تضع شودري، بسذاجة أو "تساذُج"، استعمار فلسطين في إطار "غياب الحوار" بين الطرفين والصراع "الفلسطيني ـ الإسرائيلي"، وبذلك تخدم أهداف المؤسسة الصهيونية ومن ضمنها "تمييع" مسألة استعمار فلسطين والحديث عن الأمن الذي يحتاجه مواطنو واحدة من أقوى دول العالم عسكرياً في مواجهة "الفلسطينيين الغاضبين".
يُذكر أن شودري درست الحقوق وتخرجت من جامعة جورج ميسن، في ولاية فرجينيا بالقرب من العاصمة واشنطن، كما أنها عضوة في جمعيات عدة وناشطة بين أبناء الجالية المسلمة.
وقد أسست وترأست مبادرة "سيف نيشين كولابرتيف"، وهي مبادرة تعمل على تدريب وإعطاء المحاضرات في قضايا تتعلق بتغيير الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة. ويعطى قسم من هذه الدورات إلى منتسبي الشرطة الأميركية "لزيادة حساسيتهم ومعرفتهم عن الإسلام"، كما تقول المبادرة.
في هذا الإطار الذي بدأت "مؤسسة شالوم هارتمان" تنظمه، كانت زيارة شودري ومسلمين أميركيين آخرين إلى فلسطين المحتلة. وشودري من القلائل الذين جاهروا بهذه الزيارة. فالأغلبية، والذين يقدّر عددهم بـ16 شخصاً، فضّلوا عدم البوح بأسمائهم، وأحيطت الزيارة بالكتمان، تحسباً من غضب الجاليات الاسلامية. وتثير هذه السرية الشكوك حول الموضوع برمّته، كما تخون الثقة والشفافية التي من المفترض أن تحكم العلاقات بين النشطاء وقادة الجاليات المسلمة.
وسبق لشودري أن كتبت مقالات عدة في صحف أميركية تتناول موضوع تعامل وسائل الإعلام أو السياسيين الأميركيين مع المسلمين في الولايات المتحدة بعنصرية. وكتبت ضد موضوع "رهاب الإسلام" (إسلاموفوبيا). عند متابعة مقالاتها تلك، تظهر شودري وعياً وفكراً ناقداً وتناولاً حساساً لهذه القضايا المهمة. ولهذا لا يبدو ما كتبته عن زيارتها لفلسطين المحتلة منذ عام 1948 غريباً لجهة الفحوى والمتاجرة باسم الفلسطينيين فحسب، بل تكمن خطورة الموضوع في المساواة والتماهي بين اليهودية والصهيونية، وهي بذلك تعيد إنتاج الخطاب الصهيوني.
أصبح مفهوم "الحوار"، وخصوصاً حوار الأديان والحضارات، دارجاً في الفترة الأخيرة. لكن هناك إشكاليات وانتقادات تتعلق بالطرف الداعي إلى الحوار وبطبيعته وأرضيته. الإشكالية في هذا الحوار المزعوم هو أنّه يتبنى أفكار الحركة الصهيونية. هذه الحركة التي أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3376 عام 1975، والذي يدين الصهيونية ويعتبرها "شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وفي العام 1991، اشترطت إسرائيل، قبل محادثات مدريد، التي أدت إلى اتفاق أوسلو، إلغاء هذا القرار الأممي. وكان لها ما أرادت، بموجب القرار رقم 4648. وبذلك لا يكون حواراً بل ترديداً ببغاوياً للخطاب الصهيوني.