لا يكاد يمرّ وقت طويل، دون أن يقع كثير منّا في فخ خبر كاذب تناقلناه ولم نعرف مصدره ولا مدى صحّته، ونصبح في حالة المتلقي غير الواعي، الجاهز لاستيراد شائعات تتناسب مع توجّهاته في ظل الحروب السياسية القائمة في المنطقة العربية. في هذا التحقيق نقف على مشاركات حقيقية تساعدنا على التأكّد من صحة الأخبار، والهدف من الحرب النفسية التي يلعب فيها الخبر الكاذب دور البطولة، ونستعرض عدداً من الشائعات النفسية التي استخدمت في الحروب العالمية.
ولتوثيق صحّة أخبار الحرب في سورية وحلب، قام مجموعة إعلاميين بإنشاء منصّة على الإنترنت تحت اسم "تأكد"، وعنها قال أحمد بريمو، مدير ومؤسّس المنصة: "تعمل المنصّة على التحقّق من الأخبار الكاذبة لأن الخبر أمانة وعلى الإعلامي والقارئ أن يتأكدا من صحة الخبر قبل نقله إلى وسائل التواصل والإعلام من مصدرين موثوقين على الأقل، أو عدّة مصادر متقاطعة.
كما تقدم المنصة، خدمة للتأكّد من صحّة المواد الخبرية ويقوم فريق العمل بالمهمّة عبر المعايير المهنية والتقنية المتّبعة من قبل أبرز مؤسّسات الإعلام العالمية.
وأشار بريمو، أن الأخبار الكاذبة عادة تنقسم لنوعين؛ الأوّل، خبر كاذب بكل تفاصيله والغرض منه التدليس، والنوع الثاني تتحكّم فيه نزعه غير عقلانية ويعتمد على العاطفة ويتلقاه روّاد التواصل الاجتماعي وينتشر مثل النار في الهشيم، وخاصة إذا رافقته صورة مؤثّرة.
وأكد المتحدّث أن نشر الأخبار والصور الكاذبة يضرّ أي قضية، لأنه يُفقدها مصداقيتها عند كثير من القراء المتبنين لها، وفي هذه الحالة، يضيف: "نخسر الجمهور الداعم، ولكن من خلال عملنا نتحقق من كافة الأخبار ونقوم بتصحيحها للجميع".
من جهته علّق إيهاب حمدي، أستاذ مساعد في قسم الصحافة والإعلام بجامعة ميريلاند في الولايات المتحدة، أن كل المتنافسين في أي مجال يلجأون إلى نشر أخبار تتضمّن جزءًا من الأخبار الكاذبة بغرض إضافة صفات جيدّة للذات، أو وصم الخصم بصفات ونعوت سيئة تؤدّي للعزوف عنه من قبل الجمهور، الحال لا يختلف في السياسة، ففي حالة النزاعات السياسية تتنامى هذه النزعات باستخدام الأخبار الكاذبة على حدّ تعبيره.
تاريخ الحرب النفسية
يُشير حمدي، أنه يجب التمييز بين من ينشر أخبارًا كاذبة أو أخبارًا تفتقد للدقّة والصحّة، وبين استخدام الأخبار كإحدى آليّات الحرب النفسية من خلال المعلومات الكاذبة والشائعات، بطريقة ممنهجة لتحطيم معنويات الخصم وإضعاف قدرته على المقاومة وتكبيده خسائر نفسية. هنا، يستشهد المتحدث، بأن القائد الألماني رومل قال: "إن القائد الناجح هو الذي يسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم"، ويقول الجنرال شارل ديغول: "لكي تنتصر دولة ما في حرب، عليها أن تشن الحرب النفسية قبل أن تتحرّك قواتها إلى ميادين القتال وتظل هذه الحرب تساند هذه القوات حتى تنتهي من مهمتها"، وهذا ما أكد عليه أيضًا القائد تشرشل بقوله: "كثيرًا ما غيّرت الحرب النفسية وجه التاريخ" .
وأوضح حمدي أن الحرب النفسية لها تاريخ طويل ومستمر، فالقضية أننا لا نتوقف أمام معطياته وعادة ما نسميها خبرًا كاذبًا الا إنها في الحقيقة شائعة فقط، فتعريف الشائعة المبسّط أنها أخبار مشكوك في صحتها، ويتعذّر التحقق من مصدرها، وتتعلّق بموضوعات لها أهمية لدى الجمهور الموجهة إليه، ويؤدي تصديقهم أو نشرهم لها إلى إضعاف روحهم المعنوية، وبالتالي فهي سلوك مخطط ومدبر تقوم به جهة ما أو شخص ما لنشر معلومات أو أفكار غير دقيقة.
يستطرد المتحدّت قائلًا: "إن ما يشغلنا دائمًا في الأخبار الكاذبة المحتوى الخبري في الشائعات إلا أنها قد تأتي في شكل نوادر وطرائف وأغان، أو بنشر أخبار وتقارير مجهولة المصدر، توحي بالتصديق أو تكون مبالغًا فيها".
صناعة الخوف والقلق
الواقع أن هذا النوع من الحروب النفسية يُمارس حتى في حالات السلم، ولا يستلزم أن يكون هناك صراع مسلحٌ قائم، وغالبًا ما يبدأ المتحدّث حديثه بـ"إنني سمعت ولست واثقًا من صحّة الخبر أن كذاوكذا..."، أو أن يكتب الخبر بصيغة: "صرّحت مصادر بكذا وكذا ولم يتسنّ لنا التأكّد من صحّة الخبر من مصدر محايد"، لتفادي المساءلة فيما بعد، ففي كل الأحوال يكون الضرر قد حدث بالفعل.
الهدف من تلك الأخبار غالبًا هو الاقتناع بالنصر، وإقناع العدو بهزيمته وتشكيكه بمبادئه ومعتقداته الوطنية والروحية، وزرع بذور الشك في نفوس أفراده في شرعية قضيتهم والإيمان بها.
يضع عدد من الباحثين سمات معينة في حالة استخدام الأخبار الكاذبة، منها أنه لا بد أن تتضمّن هذه الأخبار جزءًا ضئيلًا من الحقيقة، فلا يمكن فبركة القصّة الخبرية بالكامل، لكن تعتمد على سرد لجزء حقيقي بالإضافة للفبركة، كما لا بد أن تتعلّق بالأحداث الراهنة لتنال اهتمام القارئ، ومن خلال استغلال الدوافع البشرية كالخوف والحرص على البقاء أو الغذاء أو الأمن لتحقيق الانتشار.
يستشهد حمدي بأحد الأخبار التي انتشرت مؤخرًا عن اغتصاب النساء في حلب، وفتاوى قتل النساء خوفًا من التعرض للاغتصاب، والتي اتضح بعد التحقق أنها تدخل ضمن إشاعات الحروب المبالغ فيها، مستفيدا من وقوع حوادث فعلياً لكن يتم تضخيمها والمبالغة في أعدادها، معتبرًا أنه تكتيك تقليدي من ضمن شائعات الخوف، وتعد شائعة الاغتصاب من هذا النوع، وتنتشر بحسبه هذه الإشاعات لأن الناس خائفون و قلقون، والإنسان في حالة الخوف والقلق مستعد لأن يتوهم أمورًا كثيرة لا أساس لها من الصحة، وهو مستعد لأن يفسر الحوادث العادية تفسيرات خاطئة يمليها عليه الخوف والوهم وهو مستعد أيضًا لأن يصدق كل ما يقال له على حدّ قوله.
ولهذا السبب يضيف، تنتشر هذه الإشاعات بسرعة بين الناس في الأوقات التي تضطرب فيها الأفكار ويستولي عليهم الخوف والقلق، وبالطبع إشاعات الخوف أكثر قدرة على الانتشار.
إشاعات الحرب العالمية
الحربان العالميتان الأولى والثانية كانتا حربي إشاعات بالدرجة الأولى، لذلك فإن هذه الحالة جديرة بالدراسة من الناحية النفسية والاجتماعية، وعلى إثر ذلك صدر كتاب (علم نفس الإشاعة) في عام 1947.
فمثلا انتشرت في الحرب العالمية الأولى، الإشاعات والقصص التي تقول إن الألمان يقطعون أيدي الأطفال، وإنهم يرمون جثث الموتى في الماء المغلي ويصنعون منها الصابون، وإنهم يصلبون أسرى الحرب، وفي الجانب الألماني كانت تنتشر إشاعات تقول إن الحلفاء يستخدمون الغوريلات المتوحشة من أفريقيا وآسيا في حرب الناس المتحضّرين.
مثلا، خلال الانتصارات العسكرية لدول المحور ومع اقتراب الخطر الألماني أوردت الصحف الإنكليزية خبرًا عن نزول مليون جندي روسي في منطقة (أبردين) لحماية بريطانيا، وطبعًا هو خبر كاذب تمامًا والهدف منه رفع المعنويات، وكحال أي شائعة تتم إضافة جزءٍ جديد ويتفننّ المواطن في زيادة حبكة قصّة المليون جندي، فكان بعضهم يصف أسلحتهم وآخر يؤكّد أنه قابلهم، ويصف ملابسهم العسكرية، لدرجة أن أحد الإنكليز ادعى أن واحدًا من هؤلاء الجنود الروس تقدّم لطلب يد قريبته.
وفي الحرب العالمية الثانية أيضًا، أسس هتلر وزارة للدعاية السياسية وعين عليها جوزيف غوبلز صاحب عبارة "اكذب ثم اكذب حتى يصدق الآخرون"، ومعظم الشائعات كانت تشمل تضخيم حجم القوة العسكرية الألمانية أن لديها قذائف تحوّل الناس إلى بخار.
كيفية التحقق منها
السؤال الذي يطرحه متتبعون في الغالب، هو كيف نتأكد من الأخبار؟ يجيب حمدي عن السؤال، أنه يجب على المراسل أو المحرّر أن يصبح مدمنًا على التحقيق، بمعنى أن تتحوّل لديه الرغبة في التحقّق من صحة كل خبر وكل معلومة إلى ما يشبه الإدمان، لا يهدأ إلا بعد أن يمرّ الخبر بكل مراحل التحقق التي يمارسها بطريقة آلية، وهو أمر في منتهى الأهمية.
"غالبًا ما يحتاج الصحافي إلى الأخبار "الساخنة"، وتحقيق السبق الصحافي، فيقوم بتأمين نفسه بعبارات من نوعية لم يتسنّ التحقق منها، أو هذه الشهادات على مسؤوليه قائليها، إلا أنه يدرك تمامًا أنه لم يقم بواجبة لآخر مدى، وهذه هي الكلمة المفتاحية، وهي أن يقوم بواجبة لآخر مدى ممكن من خلال التحقّق من الخبر، بحيث يصبح هناك شبه استحالة في بذل جهد أكبر، وعلى الرغم أن النفس الإنسانية يثقل عليها ذلك وتميل للاستسهال، لكن التميّز يتطلب ذلك، والثمن الذي يدفعه الصحافي في حال تكذيب الخبر يكون على حساب مصداقيته" يقول حمدي.
في ظل الانتشار الواسع للأخبار، يدعو المتحدث القارئ وخاصة على "السوشيال ميديا"، إلى أن يتحرّى من صحّة الخبر أو الصورة المنشورة، مشدّدًا على بناء ثقافة التحقق من الخبر في نفسه، بمعنى أن يتحول من متلقٍّ سلبي إلى متلقٍّ فاعل، يقوم بالتحليل والتفسير والتوثيق، وهذا يتحقق من خلال تغيير العادات السائدة في ما يتعلق باستهلاك الميديا، فالعديد من دول العالم بدأت بتدريس مناهج تسمى "التربية الإعلامية" media literacy، وهي أشبه بدراسة التربية الموسيقية والفنية والمسرحية في المدارس لطلاب ما قبل التعليم الجامعي، وكما تهدف مثلًا التربية الفنية الموسيقية إلى تنمية القدرة على التذوق الفني، فالتربية الإعلامية تنمي القدرة على التذوّق الصحافي والتحقق من الأخبار وكيفية اختيار مصادر الأخبار والمشاركة النشطة، إلا أن العالم العربي ما زال متأخرًا في هذا السياق.
وبشكل عام يمكن للقارئ التعرف إلى صحة المعلومات بشكل يسير، فهناك مؤشرات عامة لصدق القصة الخبرية، مثلًا اكتشف الباحثون أن الأخبار الكاذبة عبر الإنترنت في الغالب لها نفس الصفات وتنشأ باستخدام نفس الأساليب.
فإذا بذل القارئ مجهودًا للتقصي حول هذه المواضيع فسينمي مهارة حقيقة، مثلا يتحقّق من التطوّر التاريخي للقصّة الخبرية، أقصد التطوّر الزمني، والانتباه إلى أن الخلل في الترتيب الزمني يكون عاملاً مهماً لتكذيب القصّة.
كذلك الأسماء والأشخاص المذكورون في القصة الخبرية، ببحث بسيط ربما يتضح أنهم أشخاص وهميون، وكذلك البحث عن الصور فربما كانت قديمة، ويجب التأكد إن كانت الروابط في الخبر تعمل أم لا؟ فأحيانًا يراهن واضع الخبر الملفق على أن معظم القراء لن يحاولوا النقر فعلًا على الروابط، وتتهاوى دعائم القصّة عند التركيز على التفاصيل.