رفع محمود منصور، الموظف في هيئة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية المصرية، يده إلى السماء، وهو يقسم بالله ثلاثاً أن مخطّط تهجير الأهالي في مدينة رفح المصرية، التابعة لمحافظة شمال سيناء، كان موجوداً وقديماً، والكل كان يتوقّعه منذ أيام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، "كانت هناك شواهد كثيرة على تنفيذه منذ ما بعد مبارك" يقول منصور، ويتابع لـ "العربي الجديد"، "السلطات المحلّية في مجلس مدينة رفح هي أول جهة عملت على تحقيق المخطّط".
شواهد المخطّط القديم - الجديد
بالانطلاق من حديث منصور وأهل سيناء، وثّقت "العربي الجديد"، رفض الإدارة الهندسية التابعة للمجلس في رفح منح أي تراخيص بناء للمنازل التي سقطت نتيجة مرور أنفاق من أسفلها، أو بسبب قيام أحد المواطنين بهدم منزله الإسمنتي لإنشاء آخر بالخرسانة المسلّحة، بعد 30 يونيو/حزيران 2013، بحسب شهادات لأهالي المنطقة أكدت لـ "العربي الجديد" رفض المسؤولين، ممن كانوا يقبلون بتمرير الأمور بالواسطة أو الرشوة، الأمر تماماً، "بعضهم أخبرنا أن هناك تعليمات قريبة من الجيش بخصوص المنطقة، وقتها شعرنا بأن ساعة الصفر قد حانت".
الدليل الثاني على قِدم المخطّط يبدو في امتناع شركات المياه والكهرباء، خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، عن إقامة شبكات جديدة للمياه والكهرباء يحتاجها المواطنون الذين يقطنون منطقة الشريط الحدودي، حتى ساءت البنية التحتية والأساسية للمنطقة تماماً، ودُمّرت شبكات المياه التي تصل البيوت، ما اضطر السكان إلى جلب المياه وشرائها من خلال سيارات تنقل مياه الآبار الأرضية.
حسام برهوم، موظف في مكتب صحة رفح، أكّد لـ "العربي الجديد" أن إهمال مرافق رفح، وخصوصاً أحياء "الصرصورية وصلاح الدين والجندي المجهول والبراهمة والأحراش" الحدودية، كان مقصوداً، ويهدف إلى إجبار الأهالي على الرحيل طواعية من المنطقة، "لكننا فطنّا إلى هذه الحيلة، وتأقلمنا مع الأوضاع الجديدة، حتى إن بعضنا أصلح شبكات الكهرباء من جيبه، وآخرين اشتروا مولدات كهربائية للتغلب على انقطاع الكهرباء".
وأضاف: "عندما انتهت شبكة المياه الحكومية، وتمّ إخفاء سيارات المياه الخاصة بالشركة القابضة للمياه والصرف الصحي، بعد تعدّد شكاوى المواطنين من انقطاع المياه، واستنجادنا بمجلس المدينة من أجل توصيل المياه لنا عبر السيارات، مقابل "بون" قيمته 35 جنيهاً للسيارة الواحدة (ستة دولارات)، كان الرد أن السيارات معطلة، وقد أُرسلت لإجراء عمليات الصيانة، بعدها استخدمنا مياه الآبار لدحض حجة مجلس المدينة، لكن جاء قرار الجيش عصر يوم الثلاثاء الموافق 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي ليؤكّد مخاوفنا، إذ طرقت القوات منازلنا، وطالبتنا بإخلاء فوري خلال 24 ساعة. تحققت كوابيسنا".
الدليل الثالث
يعدّ استهداف قوات الجيش المصري لمنازل أهالي رفح بقذائف الهاون، وغضّ النظر عن القصف المتكرّر من طائرات من دون طيار (زنانة) إسرائيلية، الدليل الثالث على مخطّط ترويع السكان وإجبارهم على الرحيل طوعياً من المنطقة الحدودية.
وثقت "العربي الجديد" خلال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول من العام الجاري "2014" استهداف ستة منازل بقذائف الهاون، بمناطق مختلفة من المنطقة الحدودية، وقد قتل تسعة أشخاص وأصيب 14 آخرون، غالبيتهم من الأطفال، إذ سقطت قذيفة على منزل بقرية "الجورة" جنوب الشيخ زويد، وقتل أربعة أطفال ووالدهم ووالدته، وأصيب ثلاثة آخرون.
قذيفة أخرى سقطت على منزل بقرية "المهدية" جنوب رفح، قتل على إثرها ثلاثة وأصيب أربعة أشخاص، وسقطت قذيفة على منزل في منطقة "المطلّة" جنوب رفح وقتل اثنان وأصيب ستة"، وسقطت قذيفة على منزل بقرية "المقاطعة" جنوب الشيخ زويد وقتلت طفلة وأصيبت أخرى، وسقطت قذيفة على منزل بقرية "الشلاق" غرب الشيخ زويد، وقتل طفلان شقيقان، وأصيبت والدتهم ووالدهم، وفي جميع الحالات تم تدمير منازل المواطنين وتسويتها بالأرض.
بموازاة ذلك تصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية على أهالي المنطقة، فقد قصفت طائرات بدون طيار (زنانة) كما يسميها أهالي قرى المهدية والمقاطعة والمطلة (المناطق نفسها التي قصفها الجيش المصري)، وأسفر القصف الإسرائيلي عن قتل 17 مصرياً، بينهم 15 من أسرة واحدة، "كأنهم في رفح الفلسطينية"، يقول خالد فارس، متابعاً، "مشاهد العدوان على غزة نفسها، تجدونها في سيناء".
يؤكّد أبو عمر (من أهالي الشيخ زويد ) استهداف الجيش العشوائي لقرى رفح والشيخ زويد، قائلاً لـ "العربي الجديد": "أشهر تلك الحوادث القناص الذي اعتلى أحد الأبراج في قسم الشيخ زويد، وقتل نحو سبعة مواطنين خلال يوم واحد من دون سبب، نعم هناك إرهابيون ومسلحون، ولكن لا يمكن أن تقتل المدنيين تحت دعاوى باطلة ومن دون تحقيق".
وتابع معظم من يمتلك الأموال قرار الانتقال من الشريط الحدودي، وكان الجيش يرحّب بذلك ويدفع المواطنين إلى الهجرة غير الجبرية، بل كانت هناك شخصيات رسمية تطالب المواطنين بالهجرة، وتلقّي تعويضات، وعلى رأسها محافظ شمال سيناء الذي عقد جلستين مع مواطنين في رفح قبل وقوع العمليات الإرهابية الأخيرة التي اتُخذت حجة من أجل التهجير".
ردّ السلطات المصرية
تبرر السلطات الحكومية المصرية، وخاصة اللواء السيد عبد الفتاح حرحور محافظ شمال سيناء ، ما حدث، بأن القذائف مصدرها الجماعات التكفيرية والإرهابية، "كانت تقصد بها قوات الجيش التي تشارك في الحملات العسكرية لمداهمة أوكار تلك الجماعات"، يقول حرحور، وهو الأمر الذي لقي استنكار ونفي سالم المقلوز صاحب أحد المنازل التي دمرتها قذيفة هاون عسكرية أصابت منزله والبيوت المجاورة، وقتلت اثنين من أبنائه، وأصابته هو وزوجته.
عقب ذلك زار المسؤولون سالم في عشة أقامها قرب أطلال منزله، وطلبوا منه كما أكد لـ "العربي الجديد" عدم توجيه اتهامات للجيش، على أن تتم إقامة منزل جديد له، وإعطاؤه تعويضاً مادياً عن مقتل طفليه، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة.
تفاصيل الخطة
يكشف مصدر عسكري متقاعد، رفض ذكر اسمه، أن الخطة الأميركية الإسرائيلية، بخصوص المنطقة الحدودية المصرية الإسرائيلية في سيناء المعروفة في اتفاقية السلام باسم المنطقة "ج"، تهدف إلى تعميق الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي.
ويضيف المصدر لـ "العربي الجديد": "في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2010، مشّطت مجموعة من الخبراء الأميركيين المنطقة الحدودية، من مدينة رفح شمالاً وصولاً إلى مدينة طابا جنوباً، على الشريط الحدودي الموازي للأراضي الفلسطينية المحتلة، وقتها رسمت خرائط للمنطقة مدون عليها خطة عزل بطول مئتي كيلومتر، وبعمق يتراوح بين 10 إلى 20 كيلومتراً، وإخلاء المنطقة من السكان، اطلع عليها عدد محدود من القيادات العاملة في سيناء. يتابع المصدر أن المخطّط هدفه واضح "ضمانة أمن إسرائيل، وعزل منطقة من الحدود لمراقبتها جيداً، ومنع إطلاق الصواريخ منها مستقبلاً على إسرائيل، إضافة إلى وضع أجهزة حديثة في هذه المنطقة من أجل منع أي خطر يهدد أمن إسرائيل".
وتابع قائلاً: "توجد عدة محاور للمخطط، تبدأ بعزل منطقة حدودية بعمق محدد، وزرع أجهزة حساسة، ويشترط ترحيل الأهالي من المنطقة، مع بقاء المنطقة صحراوية خاوية (يتم حالياً في المرحلة الثانية تهجير أهالي المنطقة)، وتزويد هذا الشريط بطائرات من دون طيار لمراقبتها بعد إقناع مصر بضرورة هذا المخطط، على أن توكل هذه المهمة، أمام الحكومة المصرية من الناحية الشكلية، إلى قوات حفظ السلام.
وأوضح أن المخطط "يستهدف حدود مصر مع قطاع غزة التي تمتدّ إلى قرابة الـ 14 كيلومتراً"، قائلاً "الوفود الأميركية السرية كثيراً ما حلّت في معسكر القوات الدولية في سيناء - يقع قرب معبر رفح البري - بشكل متكرر خلال تلك الفترة، في ظل حراسة مشددة من قوات الجيش، الأجهزة السيادية، ترافقها في جولاتها على حدود مصر مع قطاع غزة، من أجل بحث الشكوى الإسرائيلية الدائمة من مشكلة تهريب السلاح إلى غزة".
ما أكّد حديث مصدرنا هو خبر منشور في جريدة الوطن المصرية المعروفة بقربها من جهاز المخابرات، إذ نشرت خبراً في 26 ديسمبر/كانون الأول 2012 يشير إلى وجود خبراء أميركيين يزورون الحدود المصرية، لإتمام مخطط لإنشاء منطقة عازلة في سيناء.
تحدثت الجريدة في الخبر المنشور أيام الرئيس مرسي، عن خطة أميركية إسرائيلية تتم في المنطقة الحدودية بسيناء، المعروفة في اتفاقية السلام باسم المنطقة «ج»، تهدف إلى تعميق الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي، بحسب ما نقلت عن "مصدر مطلع" وقتها. حالياً صمت المصدر بعد أن تم استغلال الخبر ضد مرسي، للحديث حول علاقات مزعومة مع إسرائيل.
أوجاع الأهالي
حميد عبد الله (أحد أصحاب المنازل على الحدود) قال "نعرف بالخطة منذ زمن. وافقنا رغماً عنا على قرار الترحيل. قيادات الجيش الذين مروا على بيوتنا، وأكدوا أنهم سيقفون إلى جانبنا. اختفوا فور إخلائنا بيوتنا. أما حسام كامل النحال - من أهالي رفح - فقال: "ما فعله الجيش يسهم في تنفيذ الأجندة الإسرائيلية، إذ يوفر لإسرائيل منطقة آمنة وعمقاً استراتيجياً"، فيما يكشف أحمد رميلات - محامٍ من أبناء رفح - أن التهجير القسري يخالف دستور 2014 الذي تم إقراره في عهد السيسي، الذي يجرّم في مادته 63 التهجير القسري، ويجعل منه جريمة لا تسقط بالتقادم، في ما يعدّ مخالفة دستورية قام بها واضعو الدستور على حدّ قوله.