الحرب على داعش والنظام العالمي

28 سبتمبر 2014

قوات من البيشمركة تقصف مواقع لـ"داعش" قرب الموصل (19أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

يميز المنظرون في العلاقات الدولية بين النظام الدولي، الذي تكون وحداته السياسية الدول والتي تحدد التفاعلات بينها طبيعة أو توجهات النظام، والنظام العالمي الذي يتعدّى الدول، كوحدات سياسية أساسية إلى فواعل ما دون وما فوق الدولة، بما في ذلك جمعيات "المجتمع المدني العالمي" الناشئ. وإذا كان الأول يعنى بالأساس بوجود الدولة وأمنها، فإن الثاني يعنى بالحاجات الأساسية للبشر وأمنهم. وقد يكون هناك نظام دولي من دون وجود نظام عالمي.

والنظام الحالي عالمي، ما عدا تلك التفاعلات التي تتم بين الحكومات، سواء على المستوى الثنائي أو المتعدد الأطراف أو عبر منظمات دولية حكومية. وبما أن السياسة العالمية تحكمها تصورات واقعية، وليس معايير أخلاقية، فإن الحروب لا تندلع لحماية النظام العالمي، وإنما لحماية النظام الدولي. وفي السابق، كانت القوى المراجِعة للنظام الدولي دولاً تعتبر نفسها غير مستفيدة أو متضررة من النظام القائم، فتسعى إلى تغييره. وبما أن كل نظام دولي هو من فعل الدول المنتصرة في الحرب، أو في الصراع الذي على أنقاضه أقيم، فإن هذه الدول ترسيه على قواعد على مقاسها، وخدمة لمصلحتها، إلى درجة أن عبارة "نظام دولي" تكون، أحياناً، مجازية، لأن عدد الدول التي ساهمت في صوغ قواعده قليل. لكن، بحكم ثقلها وقوتها، تمنحه شرعية قوية.

بيد أن ظهور فواعل غير دولتية على الساحة العالمية، بالتزامن مع ظاهرة الدول الفاشلة وحتى المنهارة، أوجد مشهداً جديداً يغير من ملامح النظامين، الدولي والعالمي على حد سواء. بالطبع، تبقى الدولة الوحدة السياسية الأساسية في السياسة العالمية، فهي أحسن شكل للتنظيم السياسي، ابتكره الإنسان إلى حد الآن، كما أنها تبقى محورية في مسار العولمة، لأن مختلف الفواعل الجاذبة (نحو المركز الدولتي – نسبة إلى الدولة) والطاردة (المبتعدة عنه) مرتبطة بالدولة، بشكل أو بآخر، نظراً لمسؤولياتها التنظيمية والأمنية. لكن، كما قلنا الوضع بدأ يتغير، وقد يكون استثناء للقاعدة، لكنه مثير للانتباه. ويتمثل في مواجهة مفتوحة بين دول وائتلاف دول من جهة وتنظيم ما دون الدولة أصبح عابراً للأوطان، نقصد داعش الذي ينشط عسكرياً كتنظيم في بلدين، العراق وسورية، فضلاً عن فروعها الحقيقية، أو الرمزية في دول أخرى.

طبعاً اعتاد الشرق الأوسط على ائتلافات دولية لمواجهة دولة واحدة، العراق في 1991 (لتحرير الكويت) وفي 2003 (لغزوه)، بيد أن ما يحدث، حالياً، تطور غير معهود. وشاءت مصادفات السياسة، أو بالأحرى تفاعلاتها الموجهة وغير الموجهة، أن يكون الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديداً مسرحاً لهذا التطور الفريد من نوعه في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة.

يتعلق الأمر بمواجهة فاعل ما دون الدولة، لكن عابر للأوطان ومتعدد الفروع، مستفيداً من تراجع تنظيم القاعدة في المنطقة، على الأقل، من حيث جاذبيته بالنسبة للتنظيمات الصغيرة، المنتشرة هنا وهناك في العالم العربي، والتي تبحث عن أيقونة سياسية وإعلامية، تخرجها من إطارها الوطني الضيق. فكما تبحث الشركات عن الأسواق الدولية لضيق السوق الوطنية، فإن التنظيمات الإرهابية التي تعرض خدماتها في سوق الإرهاب الدولي تبحث عن أسواق جديدة لعملياتها. وتعد داعش، اليوم، من أكبر التنظيمات، من حيث التوظيف في سوق الإرهاب. والربط بين السوقين، المحلية والإقليمية، من جهة، وكون داعش فاعلاً ما دون الدولة يهدد دولاً قائمة من جهة ثانية، يفسران طبيعة الائتلاف الدولي الذي شُكل لمواجهة هذا التنظيم الذي رُفع، بين عشية وضحاها، إلى مصاف تهديد للأمن الدولي. وهو ائتلاف أضدادٍ، تلتقي فيه أطراف دولية متعارضة الرؤى والمصالح، ومتنافسة في أكثر من مجال بشكل صفري؛ مكاسب طرف خسارة لطرف آخر.

يمكن القول إن تحرك دول مختلفة، وحتى متناقضة المصالح، لمواجهة تنظيم داعش، هو أيضاً تحرك للنظام الدولي، لتصحيح انحراف للنظام العالمي، انحراف إن لم يُصحح سيأتي على وحدات في النظام الدولي في منطقةٍ، كانت دائماً حساسة بالنسبة لهذا الأخير. ولا نبالغ إذا قلنا إن الشرق الأوسط من أكبر مناطق العالم تأثيراً على النظام الدولي، لأن كل ما يحدث فيه يمس، في نهاية المطاف، مصالح القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة.

والملاحظ في هذا الائتلاف الدولي الذي تقوده قوى غربية أنه يشير إلى "خيبة أملها" في حلفائها المحليين. فهذه القوى فضلت، في الفترة الأخيرة، المناولة الأمنية، مسندة مهمة الأمن والتدخل إقليمياً إلى قوى محلية. لكن، هذه الأخيرة متناحرة فيما بينها، ولها أجندات ومآرب لا تتماشى، بالضرورة، وتلك الخاصة بالقوى الدولية الغربية.

ثم إن هذه المناولة الأمنية ربما أثارت مخاوف أطراف إقليمية أخرى، لأن نجاح المناولة الإقليمية يعني نفوذاً أكبر في المنطقة للدول التي قامت بها. ومن ثم فتراجع الإدارة الأميركية عن "انسحاب" تدريجي من مستنقع الشرق الأوسط، واستخدام آلتها العسكرية مجدداً، ولكن، ضد فاعل ما دون الدولة هذه المرة، يعني أنها أدركت حدود المناولة الأمنية ومخاطر التنافس الإقليمي بين القوى المنخرطة فيها. ثم إن داعش منحتها فرصة تاريخية لجمع الأضداد، أمر تحقّق جزئياً في 1991 ضد العراق. ومن مصادفات التاريخ أن تكون بلاد الرافدين مسرحاً لتحرك ائتلاف الأضداد مرتين، لكن ليس للأسباب نفسها. كما منحت فرصة تاريخية لدول المنطقة للظهور بمظهر الملتزم بمحاربة الإرهاب، خصوصاً أن محاربة الإرهاب أصبحت رهان قوة على الساحة العالمية، وما لذلك من توظيف محلياً وإقليمياً ودولياً.