الحراك العربي... خطوة للخلف من أجل قفزة للأمام

25 فبراير 2016
مرت خمس سنوات على اندلاع شرارة الثورة (فرانس برس)
+ الخط -

مرت خمس سنوات على اندلاع شرارة الحراك العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا تحديداً، ولا بد في الذكرى السنوية لهذا الحراك أن نقف في لحظة تقييم ومصارحة، خاصة مع بداية انكشاف الحقائق وانجلاء ضبابية المواقف، سواء عند بعض الأشخاص وعند كثير من الدول.

لقد كانت شعارات الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية قواسم مشتركة بين ثوار الدول العربية، فالمطالب العامة أخرجت المارد العربي وتصدر الشباب طلائع المظاهرات في الميادين.

وفي هذا السياق، كانت الاحتجاجات الشعبية مشروعة وموضوعية بعد عقود عجاف من السياسة، والاقتصاد والتنمية، حيث غابت الشرعية السياسية وغلب القمع والاستبداد متمثلا في صورة القائد الواحد وحزب النظام، وسيطر الهاجس الأمني على بناء السياسات العامة والمشروع التنموي، ما أدى إلى هدم ركيزة الحق والقانون مع غياب رؤية رصينة لنموذج اقتصادي طموح.

وعلى هذا الأساس، سجلت الدول العربية أرقام قياسية في انتهاكات حقوق الإنسان بسبب الاعتقال السياسي والاختطاف القسري، ناهيك عن المحاكمات العسكرية.

وعرفت الدول العربية إقصاء واسعا للقوى السياسية وتهميشا ممنهجا للطبقات الفقيرة والمعوزة، نجم عنه فوارق اجتماعية مهولة بين الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والمدن والأرياف والمراكز والجهات، كما حول الريع الاقتصادي دور الدولة من دولة إنتاجية إلى دولة تحصيصية، اندثرت فيها قيم العمل، والاجتهاد، والابتكار والاستحقاقية، واتسمت بتضخم بيروقراطي مفرط واستفحال الفساد الإداري والمالي.

وعلى هذا النحو، أصبحنا أمام دول الكمبرادورية التي تستند إلى شبكات اقتصادية ودوائر سياسية جمعت بين رجال الأعمال والمسؤولين في السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن عبر روابط وشائجية من قبيل الانتماء العائلي، القبلي، الإثني والطائفي، معلنة بذلك عن إفراغ المؤسسات الوطنية من كينونتها المبنية على الإسهام في الرقي بأداء الإنتاج العام ومعاني التماسك والسلم الاجتماعي داخل المجتمع.

هذا الأخير الذي تحول إلى مجتمع ذي احتياجات خاصة، بفعل الظلم، والإهمال وسوء توزيع الثروات، فحرم الإنسان العربي من التمتع بإنسانيته ونصيبه في تعليم جيد ورعاية صحية وسُلب حقه في العمل والسكن والولوج للمرافق الخدمية.

ومما تجدر الإشارة إليه، أنه مع تساقط الأنظمة السياسية ورضوخ بعضها الآخر لرغبات الإصلاح، أسندت إدارة الدولة إلى المؤسسات القديمة، وما عرف إعلاميا بالدولة العميقة، إما في شكل مؤسسة عسكرية أو أشخاص لهم صلات مباشرة بالأنظمة السابقة، فلم يتم خلق حوار مجتمعي بين جميع الأطراف، بل أصبحنا أمام حيرة مجتمعية ودوامات اصطلاحية عن مفهوم الدولة وطبيعتها، العلمانية، الديمقراطية التشاركية، الصراع بين الدولة الدينية والمدنية، الدستور أولا أم الانتخابات، الاختيار بين النظام الرئاسي أم البرلماني، من دون التوقف عند المفصل الأهم الذي يتعلق بأن الممارسات السابقة ما زالت متجذرة فيه، وأن النظام السابق ما زال حاضرا حتى لو اختلفت الوجوه والأسماء، الأمر الذي حول المرحلة الانتقالية إلى مرحلة انتقامية لم تحسّن فيها شروط عيش المواطن، ولا إرساء حلمه المنشود الذي نادى به في الميادين عن بناء دولة الرعاية لا الجباية، وإحياء معنى الوطن الحر عبر مصالحة وطنية وعدالة انتقالية تحرص على تقصي الحقائق ومحاكمة المتورطين، علاوة على تقديم تعويضات لجبر الضرر.

إضافة إلى المزايدات السياسية الضيقة بين الأحزاب والتيارات وتطلعها للاستحواذ على السلطة، من دون أي حد من التوافق الذي لا محيد عنه لصياغة عقد اجتماعي جامع لكافة أطياف المجتمع، وكذلك انتشار الدعوات الاستقطابية بين من يعادي الدولة باسم الثورة ومن يعادي الثورة باسم الحفاظ على مؤسسات الدولة.

وإجمالا، لم تستثمر المرحلة الانتقالية لتكون تأسيسية، فما حدث هو انتقال سياسي وليس تحولا ديمقراطيا تسابقت على إثره الأطراف السياسية على مواقع الحكم والمعارضة، وشهدنا تمكن التيار الإسلامي من النجاح في الاستحقاقات الانتخابية ومروره من التنظير الحالم بمجتمع فاضل إلى الممارسة السياسية الشائكة، ويتبين هذا جليا من خلال فشله إما مبادرة أو مؤامرة في قيادة تحالفات وتوافقات ديمقراطية متينة، ما ترتب عنه غياب للاستقرار وتفشٍّ للانقسام والاستقطاب العددي بين شركاء التغيير وعودة رموز الدولة العميقة والثورة المضادة إلى تصدر المشهد السياسي العربي.

ومما يلاحظ في هذا الشأن، أن الإسلاميين في غالبية الدول العربية حصلوا على سلطة بدون حكم، حيث تبوؤوا مراكز قيادية في الدولة، ولكن لم تكن لهم سلطة تقريرية تمكنهم من القيام بأدوارهم وتحمل مسؤولياتهم، فأجهزة الدولة لم تتعاون معهم، بل قاومتهم وعملت على إفشالهم. وبذلك، لم يتمكنوا من تحويل الدولة الرخوة إلى دولة قوية عبر تغيير فلسفة مؤسساتها فتصبح الأجهزة الأمنية في خدمة الشعوب وليس الأنظمة، وينصف القضاء المظلومين دون تحيز لفئة على أخرى، ويمكّن الشباب ذوي الأهلية وتنجز المطالب الثورية في ما يخص العدل والكرامة.

لقد حققت الثورة المضادة زحفا كبيرا نحو ناصية القرار محاولة إعادة إنتاج الأنظمة القديمة، وإذا كانت الثورة تعرف كتمرد على السلطة بحراك شعبي يهدف إلى استبدال الممارسات الاستبدادية، فالثورة المضادة هي تمرد على سلطة شعبية معتمدة على شرعية الشارع لا على شرعية الشعب. ومما يجب التوقف عنده، أن الثورة المضادة تستعمل أساليب مشابهة للثورة في تحريك شرعية الشارع من خلال الاستقطاب العددي متجاهلة الانتخاب الديمقراطي. علاوة على ذلك، تستدعي الثورة المضادة مناهج الحشد والتجييش عبر توجيه قطاعات المجتمع، والتحريض وشيطنة الخصوم السياسيين من خلال الدعاية والاغتيال المعنوي للرموز الثورية، إضافة إلى صناعة الكذب، وتشويه السمعة ونشر أفكار التخوين وخدمة الغرب عبر استثارة المشاعر الوطنية.

ومهما بدا المشهد السياسي العربي قاتما في ظل الانتقام والملاحقات الأمنية، والإقصاء والتهميش وعزل القوى السياسية الشابة، إلا أن بصائر النور تحلق في الأفق، فما زال العديد من أوساط المجتمع ترفض قبول الأمر الواقع والعودة إلى الوراء.

وعلى العموم، فقد كسب الحراك العربي نقاطاً رئيسية تتمثل في كشف الوجه القبيح للسلطوية وإخراجها للعلن بدل تسترها في وجود طرف ثالث وأيدٍ خفية، كما يقف سدا منيعا في جميع الأقطار العربية نحو تقدمها لإعادة نفسها، ناهيك عن كسب جيل شاب لا يقبل بأنصاف الحلول والمساومات على حرياته تحت مسميات حكم المستبد العادل أو الاستقرار أولا قبل الديمقراطية.

وهنا، لا بد من أن نشير إلى أن جيلا جديدا ينضم إلى ثوار الميادين كان في غالبيته في سن الطفولة إبان انطلاق شرارة الحراك في نهاية سنة 2010، كما أن انضمام الفاعل النسوي بقوة للمطالبة بالحريات والديمقراطية أصبح جليا في تصدره المظاهرات غير الفئوية والتي لا تهم قضايا المرأة فقط، إضافة إلى استرجاع الوعي السياسي لدى طلاب الجامعات.

إن جيل الثورة يستوجب عليه مهام كبيرة تتعلق بمواجهة الاستبداد وأركانه والعمل على تحفيز العموم نحو الديمقراطية، أو كما يسميها المفكر الفرنسي إتيان دو بواتيه في كتابه "خطاب العبودية الاختيارية" العمل على تحرير العقول بخوض معارك مع أجيال سابقة نحو التحرر والتنوير وتبيان محاسن العيش الديمقراطي.

ختاما، إن تحقيق المبتغى المرجو من الحراك العربي في أوطان مستقلة، يتمتع مواطنوها بالحرية والكرامة، يُعاملون بعدل وينعمون بالتنمية والسعادة رهين باصطفاف ثوري شامل حول مشروع متكامل الأركان، يحدد شكل وطبيعة الدول العربية بالغوص في أدق تفاصيلها لا التوافق على الشعارات فقط، ثم القيام بمصالحة وطنية شاملة تنبذ التفرقة وتحاكم مجرمي الثورات، إرساء حوكمة للعلاقات بين كل مكونات الوطن من أحزاب سياسية، مجتمع مدني، أجهزة الدولة ورجال الأعمال، وكذلك نبذ وحظر كل أشكال العنف والتطرف بما يضمن التعايش السلمي داخل المجتمعات.

هذه الشروط لابد منها للحفاظ على جوهر الحريات التي يستحقها الفرد العربي بكل جدارة للحياة، أو كما يقول الزعيم الأميركي مارتن لوثر كينغ: كل إنسان يموت ولكن ليس كل إنسان يحيا.

(المغرب)

المساهمون