الحراك الشبابي الفلسطيني: نظرة إلى التجربة

14 سبتمبر 2017
(في قرية دير حنا، تصوير: حازم بدر/ فرانس برس)
+ الخط -
لطالما لعبت شريحة الشباب دورًا فاعلًا وهامًا على الساحة الفلسطينية، كونها جزءًا من الشعب، تتفاعل مع ما يمسّه، وتتأثّر بما يمرّ به من تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية؛ لذا كان بالضرورة أن يطاولها الركود الذي شهدته الحالة السياسية الفلسطينية، بعد اتفاقية "أوسلو"، ونشوء سلطتها، التي دأبت منذ نشوئها في عملية مكثفّة لإعادة تشكيل وهندسة البنى الفلسطينية بما يتماشى مع تحقيق مصالحها-السلطة- السياسية والأمنية والاقتصادية، حيث أحالت تلك العملية "الشاب المناضل" إلى "شاب ناشط"، وترهّلت لجان الطلاب في الجامعات والكليات الفلسطينية، واقتصر دورها-في أحسن الأحوال-على الدور النقابي، وعَلت مفاهيم "الخلاص الفردي" و"التثقيف المدني" في الوعي الشبابي الفلسطيني.

كل ذلك تمّ عبر جهد بذلته السلطة بواسطة مؤسّساتها وكذلك عبر الجمعيات غير الحكومية المموّلة من المنظمات الدولية والغربية. إلا أن عام 2011 شهد عودة الحركات الشبابية إلى الواجهة الفلسطينية من جديد، تزامنًا وتأثّرًا بالحركات الثورية في الدول العربية، حيث مثّلت بدايات "الربيع العربي" محفّزًا أساسيًا ودافعًا لدى الشباب الفلسطيني لإنشاء حركات شبابية، تم ذلك إما بمبادرات شبابية فردية، أو عبر منظمات أهلية، أو عبر الفصائل الفلسطينية، انضوى تحت راية هذه الحركات الآلاف من الشباب الفلسطينيين في جميع أماكن تجمعهم، سواء في فلسطين المحتلة، أو في الشتات، وبلورت كل من تلك الحركات مطالب مختلفة، تتناسب وواقعها المعيش، وما يواجهها من تحدّيات سياسية واجتماعية واقتصادية، واستفادت مما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من فضاءات جديدة للحشد والتعبئة، تتجاوز أدوات الأحزاب التقليدية في الحشد، وتكسر احتكار الفضاء العام، لصالح السلطات بمختلف أوجهها.

كما سهّلت تلك الوسائل، عملية التشبيك بين تلك الحركات في مختلف أماكن وجودها. وإن كانت تلك الحركات قد اشتركت في الروح الثورية التي تجلّت في شعاراتها وخطاباتها، إلا أنها اشتركت كذلك في النهاية التي انتهت إليها، إما بالتفكّك أو الاحتواء أو الاكتفاء بالوجود الافتراضي.

ذهب العديد من الباحثين للقول أن بنية ووعي الحراك الشبابي الفلسطيني في الضفّة الغربية وقطاع غزة، لم تكن إلا صورة انعكست من خلالها البنية الفلسطينية الهشّة بكل إشكالاتها ومُصابها، مردُّ ذلك بالأساس أن الأفراد والمجموعات الشبابية التي تشكّلت منها تلك الحركات تعلّمت وتدرّبت وتثقّفت داخل مؤسّسة السلطة الفلسطينية الرسمية ووفق رؤاها، إحدى صور انعكاس التشوه البنيوي تجلّت في خطابات وشعارات الحراك الشبابي، التي تعدّدت وتوزّعت ما بين قضايا عديدة كإنهاء الاحتلال، إنهاء الانقسام، رفض التطبيع، قضية الأسرى، المطالب المدنية والثقافة.

هذا التنوّع إنما هو في سياقات معينة مطلوب ومفيد، وذلك عندما تتحقّق الإرادة الجمعية لكافة مكوّنات الحراك، من أهداف ومصالح محدّدة وموحّدة، لكن تنوّع وتعدّد الإرادات لكل مجموعة على حدة وفي ذات الوقت تضارب الأهداف والمصالح فيما بينها، كان بمثابة حلقة الضعف الأولى في خطاب الحراك الشبابي، وهو ما صَعد من خطاب السلطة في الضفّة والحكومة في غزة، في مقابل خطاب الحراك الشبابي. وأفقد الإجماع على قضايا مشتركة كان من الممكن أن تشكّل أرضية صلبة تجمع الكل الشبابي فوقها.

هذا وشكّلت عوامل أخرى، مساهمةً في زيادة هشاشة بنية الحراك وفشل مساعيه، حيث عجز الحراك بدايةً عن الاستفادة من الفضاء المديني العام لممارسة نشاطاته ضمن هذا الحيّز، وخصوصًا مع سيطرة مؤسّسة السلطة عليه، من خلال استباحتها له، بضبط ومراقبة نشاطات الحراك الشبابي المستقلّ، وتشكيل حركات شبابية موالية للسلطة وتفعيلها في الحيّز ذاته، الأمر الذي أدى إلى انحصار نشاطات الحراك المستقل والحدّ من فاعليتها.

إضافةً إلى ذلك بَتر الشرخ الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزّة طاقة الحراك الشبابي. ومن المهمّ الإشارة في الوقت نفسه إلى الصعوبة في التنقل بين مدن الضفة، هذا العزل الناشئ بفعل الاحتلال، خلق اختلافًا في خطاب الحراك ومطالباته، فاهتمامات الحراك في مدينة رام الله سياسية ثقافية، فيما هي اقتصادية وسياسية في مدينة الخليل، ومتعلّقة بقضية الحصار وإعادة الإعمار، والإغاثة والبطالة في قطاع غزة.

كما أدّى قصر الحراك وحصره في فئة الشباب إلى عزله عن الكل الفلسطيني، بل ووضعه في مواجهته أحيانًا، وهو ما أفقد الشارع الفلسطيني ثقته بالحراك، هذا الحصر نتاج ثقافة أوسلو، التي فكّكت "الوحدة الجمعية الفلسطينية" وأنتجت عبر أدوات التمويل الدولي مجموعة من الخطابات الشبابية والنسوية والعمالية والحقوقية والبيئية، المنزوعة من سياقها السياسي والقومي، وحصرها بالجانب المدني/ الحقوقي، كلا على حدة.

أما فيما يخصّ الحركات الشبابية الفلسطينية في الداخل المحتلّ، فقد استندت إلى ركيزتين أساسيتين في تشكّلها، الأولى، حفاظها على البقاء خارج عملية المأسسة الخاضعة لها مجمل المؤسسّات العربية في الداخل المحتلّ، وبالتالي نجحت في التخلّص من الارتباط البنيوي والإجرائي بالمنظومة الإسرائيلية، ولو لم يكن هذا الفكاك كاملًا، وهو ما منحها تحرّكًا أكثر فاعليةً وتأثيرًا، وذا مكتسبات سياسية، بعيدًا عن كونها عينية وآنية، ولا أدلّ على ذلك من حراك "برافر لن يمر"، أما ثاني تلك المرتكزات، فكان العمل في الحيّز المديني الذي تم إقصاء ونفي الفلسطيني منه، ضمن أحد أبرز مساعي المنظومة الاستعمارية، بالسيطرة على الحيّز الفلسطيني بكل مكوّناته، فجاءت تلك الحركات لتستغل هذا الحيّز، ولتكسر السيطرة الإسرائيلية المتفرّدة عليه.

إضافةً إلى ذلك عمل الحراك على تجاوز عقدة "كاريزما الفرد" والمترتبة على إرث (الحزب، الجماعة، الطائفة، والعائلة)، ونجحت بذلك بشكلٍ جزئي. لكن من المهم الإشارة إلى أن الحراك الشبابي في الداخل المحتلّ تعرّض لأزمات إدراكية في العقل الفلسطيني، بانت جلية في مهادنة الأحزاب السياسية والقيادات العربية في الداخل، وإبداء مواقف مؤدلجة كذلك منهم وتجاههم.

بدورها انتهجت المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية، أسلوبين في تعاملها مع هذا الحراك؛ الأوّل، التعامل بطريقة مباشرة من خلال منع نشاطات الحراك، واعتقال النشطاء وملاحقتهم، أما الأسلوب الثاني -الذي لم تنفك في اتباعه منذ النكبة، تحريض الفلسطيني "الموالي والجيد"، ضد الفلسطيني "غير الموالي والسيئ" كما يرى كل منهم "الإسرائيلي"، واستخدم في ذلك، الطائفة والعائلة، والأحزاب، ورؤساء السلطات المحلية، وغيرهم، ممن لم ينفكوا يومًا عن استدعاء الخطاب الإسرائيلي في دعوتهم لعبثية المقاومة، ولا جدوى من أي حراك فلسطيني ضد المنظومة الاستعمارية.

أما الحراك الشبابي في المخيّمات الفلسطينية في لبنان، والذي شكّلت أحداث مخيم نهر البارد التي اندلعت في العام 2007، بداية تكوّنه الحقيقي، إثر مطالب بإعادة بناء المخيم، ومطالب أخرى متعلقة بالحقوق المدنية والاقتصادية، وتطوّرت بنية ذلك الحراك وخطابه وتوسّعت مطالبه على أثر "الربيع العربي"، وتزامنًا في الوقت نفسه مع الانتشار الواسع للمنظمات غير الحكومية التي ترعى برامج تُعنى بحقوق الانسان، والحكم الرشيد.

وأبرز تلك الحركات الناشئة في مخيّمات لبنان، "الشبكة الفلسطينية في لبنان" والمنضوية تحتها حركات شبابية عدّة، ويمكن القول أن على اختلاف خطابات ومطالب الحركات الشبابية في المخيمات الفلسطينية في لبنان، إلا أن دوافعها كانت واحدة، وتركزت في عدة نقاط، أهمّها، الوضع الفلسطيني المتردي بعمومه، والتهميش الذي تعرض له اللاجئون في/ وعلى أثر اتفاقية "أوسلو"، وكذلك التهميش من قبل الفصائل الفلسطينية التي ركزت كل جهودها منذ حقبة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وصبّت كل مقدراتها في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة إثر انتقال الحركة الوطنية الفلسطينية لهما، إضافةً للوضع الاقتصادي والاجتماعي والقانوني للاجئين الفلسطينيين في لبنان، المتأزم بفعل السلطات اللبنانية وإجراءاتها العنصرية، لذلك سنجد أن مطالب تلك الحركات، توزّعت ضمن مطلبين رئيسين، "حق الهجرة" من لبنان، وتحسين الظروف المعيشية في المخيّمات.

ماذا عن القادم؟
لم يبق اليوم من أثر تلك الحركات إلا صفحاتها "الافتراضية"، واندثرت كل جهودها وخبت شعلتها، هل لأنها بالأساس لم تغادر الحقل الافتراضي؟ أم بسبب نجاح الفصائل الفلسطينية في تجيير الحراك لصالحها، ونجاح السلطة في احتوائه وقمعه؟ أم لأن خطاب الحركات كان محدودًا وقاصرًا؟ أم بسبب عجز الحركات عن طرح رؤية حقيقية على مستوى الوضع الفلسطيني؟ الكثير من الأسئلة التي يجب أن تُطرح على أرضية الوعي والتنظيم والنقد للحراك الشبابي الفلسطيني، لإعادة استلاب تلك الروح الشبابية التي إما سُلبت أو هُندست كما سعت "الأنظمة"، ذلك يقتضي بالضرورة أن تلعب الروافع الثقافية والاجتماعية والسياسية والمؤسسية الناجية من الفساد والهندسة والتنميط، هي وفواعلها دورًا حقيقيًا منوطًا بها، ومنتظرًا أن تؤدّيه، كما لا بد من أن يغادر الشباب مواقعه "الافتراضية" ليحلّ في موقعه الحقيقي من الحقل السياسي، أن يصل الحراك بالفعل السياسي وأدواته إلى منتهاها، حينها فقط سوف يكون الحراك الشبابي قادرًا على أن يُراكم ويستديم، ويضحي فاعلًا سياسيًا واجتماعيًا لا يمكن تجاوزه واحتواؤه.
المساهمون