11 سبتمبر 2024
الحراك الجزائري والتحديات السياسية
بعد عام من الطواف، ورفع شعارات الرفض واللاءات، والاختلافات، يقف الحراك الجزائري في منتصف طريق مآلاته وأحلامه، ومشاريعه التي تحقق بعضها، سقوط النظام السابق، وسجن رموز فساده السياسي والمالي، وأهمها براءته من الدم. ماذا يريد الحراك من دوامه الممتد، وهو الذي لم يسقط في غواية الفتنة، وحافظ على سلميته. لم يكن ذلك ممكنا، لولا تلاقي إرادتين لتحقيق الأمن والسكينة، إرادة شعبية ما زال سعير جمر تسعينيات القرن الماضي ماثلا في ذاكرتها، وفي آلام بعض معذّبيها وأهل مفقوديها، وإرادة قيادة عسكرية كان على رأسها قائد الأركان المتوفى، أحمد قايد صالح، رفضت زج الجيش الجزائري في أتون حربٍ لا طائل منها إلا الخراب.
حضرت تجربة التسعينيات الفاشلة في حراك اليوم، صقلت وعيه الأمني، ولكنها لم تستطع البلوغ به مبلغ وعي مراكمة الاقتراح والبناء. صحيحٌ أن جمعة الاحتفال بمرور عام على الحراك كانت استثنائية، عاد فيها مشهد الزخم والزحام، والأطفال والنساء والمسنين ومختلف شرائح المجتمع، إلى شوارع العاصمة وبعض المدن الكبرى. كانت فرصة للتعبير عن رمزية اليوم التاريخي، 22 فبراير/شباط 2019 الذي أنقذ الجزائر من الانهيار. ولكن الحراك الذي أجمع عليه الجزائريون في بدايته لم يعد كذلك، بعد أن نجحت السلطة في إعادة إعمار مؤسسة الرئاسة بانتخاب عبد المجيد تبون، من دون اعتراض أحد، وانطلاق ورشات الإصلاح السياسي، وأولها تعديل الدستور، ووعد الرئيس بتحقيق مطالب الحراك كلها، والعودة إلى المشهد الديبلوماسي الدولي الذي غابت عنه الجزائر طويلا.
تناقص عدد المشائين في شوارع وسط العاصمة، وخيّم على الحراك الحذر المفرط من عملية
التأطير، وأصبحت محاولات بعض الزعامات والشخصيات ركوب موجة الحراك فعلا ماضيا. أما الذين آثروا البقاء في الشارع، فيفضلون الثبات على مطالبهم الأولى بتغيير النظام، ورفض استمراريته بنسخةٍ معدلة، وفي مقدمتهم أحزاب يسارية وعلمانية، وعدد من شباب الملاعب الذين يصنعون فرجة، ومشهدا من النشاط والحيوية بأهازيجهم، ودفوفهم وأغانيهم. يحضر أيضا في مسيرات الجمعة بعض ممن فقدوا الثقة في وعود السلطة المتكرّرة بالتغيير.
لم تترك السلطات السابقة، والتي كانت في مواعيدها السياسية السابقة "أخلف من عرقوب"، لم تترك لأحدٍ رفع لواء الدفاع عنها. يقول المنتصرون للبقاء في الشارع، فعدم الثقة ما زال طابقا على نَفَسِ الشراكة السياسية بين الحراك والسلطة، كما أن الحراك لم يتحرّر بعد من حالة الريبة، ولم تستطع السلطة إقناعه بجدية الإصلاحات التي تعهد بها الرئيس عبد المجيد تبون.
يصف آخرون الشارع بأنه رمز دائم للانفلات، فهو، وإن نجا من حالة الاحتقان الأمني، لم يستطع أن ينفكّ من حالة التحفظ الدائم على مبادرات النظام، وهي حالةٌ لا تسمح للممارسة السياسية بالأخذ والعطاء، وأن مهمة الحراك في إيصال رسالة الرفض قد وصلت، وأن الجعجعة لا تصنع طحينا، خصوصا أن السلطة خَطَّت لنفسها مشروعا إصلاحيا بدأت في تنفيذه، وأشركت فيه شخصياتٍ من بعض وجوه الرفض التي كانت محسوبةً على متشدّدي الحراك.
يبدو الحراك حاليا وفيا لحالة المطلبية الاجتماعية التي عودت السلطة عليها جماهير الناس، وفاء لنهجها الاشتراكي الاجتماعي القديم، والتي أصابت المجتمع بعاهة الاتكالية التي تحولت، بفعل الزمن، والتكرار، إلى حالة مرضيةٍ لا فكاك منها، إلا بمشروع مجتمعٍ جديدٍ مبنيٍّ على العمل، والنجاعة الاقتصادية فقط، معيارا للنجاح والتميز.
كما في الحالة الاجتماعية التي ينتظر فيها الناس من الدولة توزيع السكنات، والإعانات، وإيجاد فرص عمل، ينتظر أهل السياسة حالة المبادرة من السلطة، ليتحولوا بعدها إلى حالات رد الفعل، التي يجيدون إخراجها، بكل الطرق المطلبية الممكنة. فعقلية المطلبية ما زالت هي التي تقود العمل السياسي الجزائري، وما زالت وضعية الاحتجاج هي الوحيدة الممكنة، في دولة عجزت عن تأسيس أحزاب معارضة، قوية وفاعلة، حيث عملت السلطة أعواما طويلة على تدجين الفعل السياسي، وحين بحثت عن معارضة جادّة لم تجدها، وفق قول الأمين العام السابع لجبهة التحرير الوطني، عبد الحميد مهري، والذي أُقيل من منصبه في 1996 بمكيدةٍ سياسيةٍ قادها النظام آنذاك، سميت بالانقلاب العلمي.
إلى أي مدى ستصل حالة الاحتجاج الأسبوعي في الشارع، وكم ستدوم، وهل ستحقق أهدافها؟
وهل ما زالت مجديةً في تأسيس وضعية ضغطٍ على السلطة، وقوة اقتراح يمكن الأخذ بها في الاستحقاقات المقبلة، خصوصا أن لجنة تعديل الدستور باشرت عملها، ولم يبق لها إلا شهر واحد لتقديم مسودة الدستور الجديد.
لم يستطع الحراك افتكاك صفة الشريك للسلطة، وآثر البقاء في صف المعارضة الراديكالية، في وقتٍ سطرت السلطة الجديدة لنفسها خريطة طريق تريد أن تجعل من ولاية الرئيس عبد المجيد تبون الأولى عهدة انتقالية بامتياز. قد يشكل النزول إلى الشارع ضغطا متواصلا على السلطة ستتآلف معه بعد حين، إنْ لم تشبه شائبة، وقد يكون التظاهر في الشوارع، ضرورة لضمان حد أدنى من عدم تراجع السلطة عن وعودها في تأسيس جمهوريةٍ جديدة، ولكنه لن يكون فاعلا بالقدر الذي يستطيع به مد السلطة بأدواتٍ جديدةٍ للتغيير، تساهم بالفعل في تجاوز مرحلة الشك، وصولا إلى مرحلة الثقة المحسوبة، والتي يبدو أن الناخبين الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع، في 12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قد منحوها للرئيس الجديد، من دون تسليم منهم، فلسان حالهم أن عهد الزعامة قد ولى من دون رجعة، وما انتخاب تبون رئيسا إلا فرصة تحفظ استقرار البلاد، في ظروف إقليمية معقدة، وأن مشاريعه ووعوده هي الفيصل في نجاحه أو فشله.
تناقص عدد المشائين في شوارع وسط العاصمة، وخيّم على الحراك الحذر المفرط من عملية
لم تترك السلطات السابقة، والتي كانت في مواعيدها السياسية السابقة "أخلف من عرقوب"، لم تترك لأحدٍ رفع لواء الدفاع عنها. يقول المنتصرون للبقاء في الشارع، فعدم الثقة ما زال طابقا على نَفَسِ الشراكة السياسية بين الحراك والسلطة، كما أن الحراك لم يتحرّر بعد من حالة الريبة، ولم تستطع السلطة إقناعه بجدية الإصلاحات التي تعهد بها الرئيس عبد المجيد تبون.
يصف آخرون الشارع بأنه رمز دائم للانفلات، فهو، وإن نجا من حالة الاحتقان الأمني، لم يستطع أن ينفكّ من حالة التحفظ الدائم على مبادرات النظام، وهي حالةٌ لا تسمح للممارسة السياسية بالأخذ والعطاء، وأن مهمة الحراك في إيصال رسالة الرفض قد وصلت، وأن الجعجعة لا تصنع طحينا، خصوصا أن السلطة خَطَّت لنفسها مشروعا إصلاحيا بدأت في تنفيذه، وأشركت فيه شخصياتٍ من بعض وجوه الرفض التي كانت محسوبةً على متشدّدي الحراك.
يبدو الحراك حاليا وفيا لحالة المطلبية الاجتماعية التي عودت السلطة عليها جماهير الناس، وفاء لنهجها الاشتراكي الاجتماعي القديم، والتي أصابت المجتمع بعاهة الاتكالية التي تحولت، بفعل الزمن، والتكرار، إلى حالة مرضيةٍ لا فكاك منها، إلا بمشروع مجتمعٍ جديدٍ مبنيٍّ على العمل، والنجاعة الاقتصادية فقط، معيارا للنجاح والتميز.
كما في الحالة الاجتماعية التي ينتظر فيها الناس من الدولة توزيع السكنات، والإعانات، وإيجاد فرص عمل، ينتظر أهل السياسة حالة المبادرة من السلطة، ليتحولوا بعدها إلى حالات رد الفعل، التي يجيدون إخراجها، بكل الطرق المطلبية الممكنة. فعقلية المطلبية ما زالت هي التي تقود العمل السياسي الجزائري، وما زالت وضعية الاحتجاج هي الوحيدة الممكنة، في دولة عجزت عن تأسيس أحزاب معارضة، قوية وفاعلة، حيث عملت السلطة أعواما طويلة على تدجين الفعل السياسي، وحين بحثت عن معارضة جادّة لم تجدها، وفق قول الأمين العام السابع لجبهة التحرير الوطني، عبد الحميد مهري، والذي أُقيل من منصبه في 1996 بمكيدةٍ سياسيةٍ قادها النظام آنذاك، سميت بالانقلاب العلمي.
إلى أي مدى ستصل حالة الاحتجاج الأسبوعي في الشارع، وكم ستدوم، وهل ستحقق أهدافها؟
لم يستطع الحراك افتكاك صفة الشريك للسلطة، وآثر البقاء في صف المعارضة الراديكالية، في وقتٍ سطرت السلطة الجديدة لنفسها خريطة طريق تريد أن تجعل من ولاية الرئيس عبد المجيد تبون الأولى عهدة انتقالية بامتياز. قد يشكل النزول إلى الشارع ضغطا متواصلا على السلطة ستتآلف معه بعد حين، إنْ لم تشبه شائبة، وقد يكون التظاهر في الشوارع، ضرورة لضمان حد أدنى من عدم تراجع السلطة عن وعودها في تأسيس جمهوريةٍ جديدة، ولكنه لن يكون فاعلا بالقدر الذي يستطيع به مد السلطة بأدواتٍ جديدةٍ للتغيير، تساهم بالفعل في تجاوز مرحلة الشك، وصولا إلى مرحلة الثقة المحسوبة، والتي يبدو أن الناخبين الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع، في 12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قد منحوها للرئيس الجديد، من دون تسليم منهم، فلسان حالهم أن عهد الزعامة قد ولى من دون رجعة، وما انتخاب تبون رئيسا إلا فرصة تحفظ استقرار البلاد، في ظروف إقليمية معقدة، وأن مشاريعه ووعوده هي الفيصل في نجاحه أو فشله.