11 نوفمبر 2024
الحراك الجزائري وأعداء الثورات العربية
كان طيف من التونسيين، ولا يزال، يعادي كل الاحتجاجات في بلاد العرب. وعلى الرغم من أن الأمر لا يعنيهم مباشرة، فإنهم يتحوّلون، أحيانا، إلى ناطقين باسم تلك الأنظمة التي تناوئها تلك التحرّكات، بل يزايدون عليها. كتب مناضل قومي في تونس، يعاتب الرئيس الجزائري المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة، على الاعتذار الذي توجه به إلى الشعب الجزائري، ويرى أنه إن كانت له أخطاء، فهي حصرا تنازله للجماهير الغاضبة واعتذاره لهم (!).
انتعشت هذه المواقف منذ انتكاسات الثورات العربية في حالات عديدة، على غرار الحالات المصرية والليبية والسورية.. وظل أصحابه يترصدون أي تحركٍ شعبي، يندلع في بلد عربي، حتى يعيدوا سرد جملة المخاطر المحدقة "بالأمن القومي"، بشكل كارثي، حتى يجعلنا على حافّة القيامة.
مشارب هؤلاء متعدّدة، فهم خليط من بقايا النظام السابق، وبعض المواطنين غير المتسيسين أصلا الذين لا تعنيهم قيم الكرامة والحرية، وإنما أفق طموحهم الرغيف المتوفر والأمن المستتب، حتى ولو كان على حساب حد أدنى من الحريات الفردية والجماعية وبعض القوميين الذين لم يتصالحوا بعد مع الفكرة الديمقراطية، وما زالوا يعتبرونها مؤامرة. وإذا وجدنا مبرّرات ما للصنفين الأولين، فإن المحيّر أن يصدر الموقف عن "مثقفين" من حملة الأطروحة القومية تحديدا. يستند هؤلاء عموما في تبرير رفضهم المطلق التحركات الشعبية في أي بلد عربي إلى مآلات الحالتين، الليبية والسورية، فهم يرون في سورية وليبيا ومصر والجزائر قلاعا للممانعة والنضال الوطني، والكل يعلم أن هذه الأنظمة قُطرية حتى النخاع، ولم تطلق رصاصة واحدة تقريبا تجاه العدو، بل نكّل بعضها في مواقع عديدة بالفلسطينيين، ودفعوهم إلى المنافي، حيت تشرّدوا شتاتا.
كل هؤلاء، وإن اختلفت مشاربهم وخلفياتهم الفكرية، التقوا على مساندة أنظمة شمولية، مارست شتى أنواع العسف والعنف على مواطنيها، وعلى الرغم من انكشاف الفظاعات التي اقترفتها
في حق شعوبها، ما زالوا يصرون على أنها الوصفة الناجحة لأمن الأوطان وتقدمها. يرتكب هؤلاء هفوات فكرية فادحة، حين يجردون الأوطان من شعوبها، حيث يظل الوطن، قطريا أو قوميا، مقولة فضفاضة، أنه وعاء خاو لا يتسع إلا إلى تلك الأيديولوجيا السطحية، فيطمسون الشعوب، والشعب في الأصل وحدة سياسية، تحتاج أن تكرس إرادتها وفق مبادئ الديمقراطية والقانون، من خلال مختلف الآليات التي توفرها الديمقراطية، ولعل أهمها الانتخابات الحرة والنزيهة. لا يعترف هؤلاء بالإرادة العامة، ولا بالانتخابات، كما صاغتها الفلسفة السياسية الحديثة، وحسمتها الديمقراطيات، ويستعينون بدلا عنها بإرادة القائد الملهم والزعيم الفذ الذي يحبذ القوميون أن يكون عسكريا. ثمّة ولع ووله غير مبّررين، ومرضيان أحيانا، بالعسكريين تحديدا (النموذج البيسماركي وتنظيرات بعض القوميين المبكرة والتأسيسية)، حتى أن عديدين منهم يهتفون باسم القائد العسكري في ليبيا، خليفة حفتر، ويحرّضونه على اقتحام طرابلس، حتى لو سالت دماء الليبيين أنهارا. لا يُذكر لهؤلاء العسكر خوض معركة شرف واحدة باسم القضايا القومية، وحتى القُطرية. خارج هذه الأبعاد العسكرية الأمنية التي يستند إليها معادو الثورات العربية، فإنهم يعجزون، خارج سرديات الوهم والشوفينية والبطولات الوهمية، أن يذكروا لهذه الأنظمة منجزا واحدا، يمكن أن نفاخر به
أشباهنا من دول العالم الثالث، من دون أن نمد بصرنا إلى جيراننا من الفرس أو الترك أو الفرنجة، فهي حالاتٌ لا تجيز لنا المقارنة أصلا. ما الذي أنجزته هذه الأنظمة خلال أكثر من ثلاثة عقود حكمت فيها: نسب نمو منخفضة، تبعية اقتصادية مذلة، أنظمة صحة ورعاية اجتماعية شبه بدائية. هل يذكر لها اكتشافات علمية، براءات اختراع، تصنيع سيارة، ترتيب متقدم في الجامعات العالمية، جوائز واختراعات علمية، أنظمة بيئية متقدمة، تصنيع عسكري منيع؟ لا نكاد نذكر لهذه الأنظمة منجزا واحدا يستحق أن نتمسّك بها، لأجله على حساب حاجات الأجيال الراهنة من الشباب إلى الحريات الفردية والجماعية والكرامة والديمقراطية والعمل الكريم، وهي التي تفتح سبل الابتكار والإبداع، وتخلق مناخا إنسانيا مواتيا لمناعة الأوطان.
ستقدّم الجزائر حتى من خلال ما تم إنجازه ردا قاسيا على بعض تلك الأطروحات، حين تسفه توقعاتهم وأحلامهم، فهؤلاء كانوا يدعون ربهم سرا وعلانية أن تفشل التحرّكات حفاظا على الجزائر، والحقيقة غير هذا.
لم يستسلم الجزائريون إلى الريع الذي فشل في شراء توقهم للحرية، فنجاح الحالة الاحتجاجية في الجزائر سيجعلها تقدم نموذجا مغايرا لثورات الربيع العربي، لكونه يأتي من دولة نفطية، يكون فيها الريع عادة أداةً لمقايضة الناس على حريتهم، من خلال فيض الخدمات الاجتماعية المقدمة لهم. ولكونه يأتي أيضا من بلد كواه الإرهاب، ومع ذلك، لم يتب ناسه عن عشقهم الحرية. لا أحد ينكر أن الجزائريين، مقارنة مع حيرانهم وتحديدا منذ مجيء بوتفليقة، تحسّنت أحوال معاشهم، وتضاعفت أجورهم، من خلال سياسات الدعم السخية وبرامج السكن الاجتماعي وغيره من الخدمات ذات الأصل الريعي، ولكنهم آثروا الحرية والكرامة على الريع السخي المشوب بالفساد وشراء الذمم والكرامة. كما تدحض الجزائر أطروحة أن الثورات العربية وأشكال الاحتجاجات العارمة مؤامرات خارجية، ذلك أن للجزائر تقاليد وثقافة جعلت من هذا الحراك "شأنا عائليا" كما يقولون حكما ومعارضة. ولكن هذا الشأن العائلي ستكون له جاذبية لا تقوم لدى الجوار، وما أكثرهم.
انتعشت هذه المواقف منذ انتكاسات الثورات العربية في حالات عديدة، على غرار الحالات المصرية والليبية والسورية.. وظل أصحابه يترصدون أي تحركٍ شعبي، يندلع في بلد عربي، حتى يعيدوا سرد جملة المخاطر المحدقة "بالأمن القومي"، بشكل كارثي، حتى يجعلنا على حافّة القيامة.
مشارب هؤلاء متعدّدة، فهم خليط من بقايا النظام السابق، وبعض المواطنين غير المتسيسين أصلا الذين لا تعنيهم قيم الكرامة والحرية، وإنما أفق طموحهم الرغيف المتوفر والأمن المستتب، حتى ولو كان على حساب حد أدنى من الحريات الفردية والجماعية وبعض القوميين الذين لم يتصالحوا بعد مع الفكرة الديمقراطية، وما زالوا يعتبرونها مؤامرة. وإذا وجدنا مبرّرات ما للصنفين الأولين، فإن المحيّر أن يصدر الموقف عن "مثقفين" من حملة الأطروحة القومية تحديدا. يستند هؤلاء عموما في تبرير رفضهم المطلق التحركات الشعبية في أي بلد عربي إلى مآلات الحالتين، الليبية والسورية، فهم يرون في سورية وليبيا ومصر والجزائر قلاعا للممانعة والنضال الوطني، والكل يعلم أن هذه الأنظمة قُطرية حتى النخاع، ولم تطلق رصاصة واحدة تقريبا تجاه العدو، بل نكّل بعضها في مواقع عديدة بالفلسطينيين، ودفعوهم إلى المنافي، حيت تشرّدوا شتاتا.
كل هؤلاء، وإن اختلفت مشاربهم وخلفياتهم الفكرية، التقوا على مساندة أنظمة شمولية، مارست شتى أنواع العسف والعنف على مواطنيها، وعلى الرغم من انكشاف الفظاعات التي اقترفتها
ستقدّم الجزائر حتى من خلال ما تم إنجازه ردا قاسيا على بعض تلك الأطروحات، حين تسفه توقعاتهم وأحلامهم، فهؤلاء كانوا يدعون ربهم سرا وعلانية أن تفشل التحرّكات حفاظا على الجزائر، والحقيقة غير هذا.
لم يستسلم الجزائريون إلى الريع الذي فشل في شراء توقهم للحرية، فنجاح الحالة الاحتجاجية في الجزائر سيجعلها تقدم نموذجا مغايرا لثورات الربيع العربي، لكونه يأتي من دولة نفطية، يكون فيها الريع عادة أداةً لمقايضة الناس على حريتهم، من خلال فيض الخدمات الاجتماعية المقدمة لهم. ولكونه يأتي أيضا من بلد كواه الإرهاب، ومع ذلك، لم يتب ناسه عن عشقهم الحرية. لا أحد ينكر أن الجزائريين، مقارنة مع حيرانهم وتحديدا منذ مجيء بوتفليقة، تحسّنت أحوال معاشهم، وتضاعفت أجورهم، من خلال سياسات الدعم السخية وبرامج السكن الاجتماعي وغيره من الخدمات ذات الأصل الريعي، ولكنهم آثروا الحرية والكرامة على الريع السخي المشوب بالفساد وشراء الذمم والكرامة. كما تدحض الجزائر أطروحة أن الثورات العربية وأشكال الاحتجاجات العارمة مؤامرات خارجية، ذلك أن للجزائر تقاليد وثقافة جعلت من هذا الحراك "شأنا عائليا" كما يقولون حكما ومعارضة. ولكن هذا الشأن العائلي ستكون له جاذبية لا تقوم لدى الجوار، وما أكثرهم.