الحراك الثوري في السويداء.. وانتكاساته

28 اغسطس 2014
النظام نشر عصابات الخطف التابعة له (أنور عمرو/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

امتد الحراك المدني الأول للثورة السورية بشكل طبيعي إلى السويداء، وبدأت الاعتصامات والتظاهرات المتنقلة هناك، ومعها بدأ النظام مبكراً في البحث عن حلول تقيه امتداد الثورة ليبقى ممسكاً بورقة الأقليات في هذه المدينة المتربعة في منطقة جبلية جنوبي سورية. في المقابل، سعى الناشطون الى سحب هذه الورقة من يد نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، ولكنه كان قد وضع لها خططاً خاصة، إذ نشر الحواجز في السويداء قبل انتشارها في العاصمة دمشق حتى، بل عندما كانت طريق دمشق حلب خاليةً من الحواجز، كانت طريق دمشق السويداء القصير، قد تقطّعت بأكثر من خمسة حواجز، عدا عن تلك التي كانت تفصل المدينة عن الريف.

تغيّرت معالم المدينة بسرعة وتم "احتلالها" من "بسطات" وعربات بيع متنقلة بأعداد مفاجئة حلت في شوارع المدينة الرئيسية، كما استنفرت الدوائر الرسمية كل المرتزقة من موظفيها، وأيضاً الفرق الحزبية والمنظمات الرديفة لها، وأصبحت جميعها كتلة أمنية متناغمة، وبدأ الأسد يوجّه رسائل "المحبة" الخادعة الى البسطاء، وفي الوقت نفسه ابتدأت ملاحقة الناشطين، ومبكراً نجحت مافيا النظام في بث إشاعات القلق والخوف من التطرف الإسلامي الآتي، بل وصل الأمر إلى بث شائعات عن رغبة التطرف الإسلامي في سبي النساء وما إلى ذلك من مسائل تحرك مشاعر الكرامة والشرف، وهي مسائل حساسة في المجتمع المحافظ، وهنا أصبح جفاء الناس للمعارضة ليس محبةً في الأسد، بل سببه أن "المعارضين هم جسر المتطرفين الذين سينتهكون حق الدروز بالحياة" بحسب رواية أبواق النظام.

لكن في المقابل، كان واضحاً أن عدداً ليس بقليل من أبناء السويداء، بدأ ينسحب من الخدمة العسكرية ويلتزم بيته، وأيضاً أصبح عدد المتخلفين عن هذه الخدمة، يُقدر بالآلاف، حسبما قال الجيش الحر نقلاً عن مصادره في شُعَب التجنيد، كما كثرت جثث المجندين الذين تمت تصفيتهم في قطعاتهم، فغالباً ما كان الطلق الناري القاتل يأتي من الخلف، لكن النظام كان حاضراً في جوقاته الاعلامية، ومن خلال التركيز على المتطرفين في مناسبات العزاء، وأصبحت كل ضحية مصدراً جديداً لبث شائعات عن أن معارضة السويداء هي السبب لأنها تدعم المتطرفين وترسل لهم المساعدات.

لكن الملاحظ أيضا أن حسن الأداء الاجتماعي قد منع انتشار "التشبيح" نحو المحافظات أو القرى المجاورة، فعمد النظام إلى الدفع باتجاه الانتقام عبر نشر عصابات الخطف المرتبطة به والتي تطلب الفدية وتسمي نفسها ثائرة، وهي تعاقب الدروز على "تخاذلهم"، وفي الوقت ذاته أوجد النظام أشخاصاً متعاونين معه كانوا يعملون كوسطاء لدفع الفدية وإطلاق الرهائن. هذا الأسلوب انتشر على كامل الأرض السورية لكنه أخذ بعداً طائفياً مدروساً من أجهزة الأمن وإدارتها في السويداء تحديداً. وفي النتيجة، حكم النظام السويداء بالشائعة المتنقلة، وأدرك مدى تأثيرها في مجتمع أخذ ينغلق على نفسه أكثر وأكثر، وأصبح الناشطون يستهلكون وقتهم بنفي تلك الأكاذيب.

ساعدت قوى المعارضة المختلفة، وخصوصاً المجلس الوطني، ومن ثم الائتلاف المعارض، النظام بتحييد السويداء، إذ لم تتلقف العدد المهم من أولئك المعارضين وتحاول تقديمهم الى الرأي العام، بل اكتفت بأسماء محددة وقليلة، ما شكّل عبئاً جديداً على الحراك الثوري في السويداء. يضاف إلى ذلك أنه تم تشكيل كتائب مقاتلة عدة، أهمها "كتيبة سلطان الأطرش"، ولكن عناصرها لم يتلقوا أية رعاية ولا دعم، وانتهى بهم المطاف إلى خارج سورية بعد مقتل عدد منهم في معركة ظهر الجبل، وانتشار الكتائب الإسلامية والمحاكم الشرعية ومحاولة التضييق عليهم رغم كل الشهادات عن إقدامهم وشجاعتهم.

وفي نقاش مطوّل مع عدد منهم، أفادوا أنهم خُذلوا حتى من المعارضة السياسية التي مثّلت السويداء ولم تسعَ الى إيصال صوتهم الى جهات القرار الفاعلة للعمل على دعمهم، برغم ذلك بقي النضال الثوري في السويداء يبحث عن أشكال متجددة، ما استدعى أيضاً البحث من النظام عن وسائل جديدة لتشتيته، وخصوصاً أن مجموعة لا يُستهان بها من مثقفي السويداء هم معارضون.

وتشير المعلومات إلى دخول "حزب الله" اللبناني وحلفائه من الدروز في لبنان، بقوة على الخط من خلال استغلال خلو الساحة الإعلامية من وجوه درزية متحدثة تعرف طرق الولوج الى داخل الأسر والبيوت ومخاطبتها بما يحرك مشاعرها، مضافاً إليه ضعف الامكانيات المادية لدى المعارضين لامتلاك أدوات الوصول للرأي العام. لكن كان للوعي الاجتماعي العام ولنشاط بعض المعارضين على الأرض، نتائج لا بأس بها بإفشال مخططات النظام وحلفائه، فبدأ البحث عن طرق طائفية بديلة تتوجه إلى حاجة الناس المتزايدة لحل أزماتهم الاقتصادية المتفاقمة، وكانت الدعوة الى مؤتمر درزي له طابع اقتصادي.

تَنبّه عدد من المعارضين الى خطورة الخطوة، فقابلوها ببيان استباقي لإعادة الدروز إلى حضن وطنهم الطبيعي وإلى تاريخهم النضالي والوطني، ولكن النظام وضع البدائل لكل خطوة يمكن أن تفشل لسبب ما، وهذا ما تسبّب في الأحداث الأخيرة في قرية دير داما القريبة في اللجاة بين درعا والسويداء، بعدما أخلت قوات النظام وعناصر "الدفاع الوطني" (الشبيحة) الساحة، فتعالت النداءات وتوافدت "الفزعات"، وعلى رأسها عدد من الشيوخ الشباب الذين كان نصيبهم الأكبر من القتلى والجرحى.

تراجع النظام عن واجهة المشهد فتقدمت "القوى الوطنية والأهلية" وساعدت بعض العناصر الفاعلة في درعا بتثبيت الوضع ومحاولة إيجاد حلول مطمئنة، لكن جزءاً من الرأي العام في السويداء، كان على دراية تامة بأن أجهزة الأمن هي المسؤولة المباشرة عن تحريك مهربي المخدرات من البدو لإشعال الفتنة، لعلّ نيرانها تمتد نحو درعا.

فشل المخطط حتى اللحظة ولكن بدأت صيحات جديدة تطالب بالتسليح لحماية المحافظة والطائفة من خطر "داعش" الآتي من الشرق، والذي سيفعل بالسويداء كما فعل بالأيزيديين في العراق، مع وجود خطر البدو و"جبهة النصرة" في الغرب. وهكذا أصبح النداء الجديد يدعو الى توحيد المعارضة والموالاة بوجه التطرف، وهنا باب الخطورة من خلال حصر الطائفة ضمن هدف الدفاع عن وجودها المستهدف من التطرف والنظام معاً، من دون أن تتقدم قيادة "الائتلاف" والجيش الحر للاستفادة من الحالة، ولتقديم ضمانات ودعم للثائرين من هذه المحافظة وإشعارهم بأن لهم مرجعية وطنية.

وعليه تشعر قوى الثورة على الأرض في السويداء من جديد، بأنها متروكة لمصيرها، وكذلك يشعر الثائرون الذين اضطروا الى الخروج من سورية معزولين لا يملكون مرجعية حتى وإن كان مكتباً بسيطاً يجمعهم ويعبّر عنهم، مقابل إشاعات عن مال سياسي تتصرف به قوى التمثيل السياسي للثورة لشراء الولاءات، وكأنه قرار ضمني يمنعها من التمدد الوطني نحو مكونات الشعب الفاعلة والمتنوعة كي تخفف مأساة السوريين.