الجحيم السوري، التراجيديا السورية، أو غيرنيكا السورية.. "الوليمة" الروائيّة التي يقدّمها خليفة لقرّاء روايته هذه، بقدر عظيم من الشراسة والوحشية والبشاعة، ولكن في عمقٍ جدّ بسيط، ومستويات من المعنى يمتزج فيها الواقعيّ بالمتخيّل، والمباشر بالرمزيّ، والماديّ بالمعنويّ، ويغلب عليها اللامنطق، بل العبث واللامعقول، في رسالة تقرأ الرّاهن السوريّ، من خلال قراءة جذوره الممتدة أكثر من ستين عاماً.
أحاول، في قراءتي هذه، التقاط النسغ الأساسي المحرّك لعناصر ومكوّنات الرواية، الرواية التي تمزج الموت بالجنون والحب بالكراهية، لكن ليس كما رأيناه في روايتَيْ خالد "مديح الكراهية"، و"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، السابقتين على هذه الرواية. فنحن هنا حيال عمل أشد خشونة وقسوة للتعبير عن عالم أشد "قذارة"، عالم تعبّر عنه وتمثّله "جثّة تتفسّخ وتتحلّل"، وتصدر عنها روائح قاتلة. ولن أذهب إلى البحث عن الدلالات البعيدة والأعمق لهذه "الجثة"، حتّى لا أقول إن الجثة هي تجسيد لسورية.. حتّى لو كان المقصود "سورية البعث"، أو "سورية الأسَدَين".
شخوص وزمن ومكان
الرحلة الممتدة بين لحظة حضور موت الأب عبد اللطيف السالم، في منزل ابنه بُلْبُل (نبيل)، في أحد أحياء دمشق، ووصيته بأن يدفن في قريته "العنّابية"، في ريف حلب، بجانب والدته وشقيقته ليلى، ثم بدء التوجه إلى القرية، في "ميكروباص" يقوده ابنُه حسين ويرافقه بلبل والشقيقة فاطمة، وصولاً إلى عملية الدفن، وبين عودة الإخوة الثلاثة إلى دمشق، رحلة تستغرق بضعة أيام، يخالُها القارئ ألف عام، فهي رحلة في الزمن والمكان اللذين يجسّدان شخصيتين مهمّتين من شخوص الرواية، حيث دوائر الزمن المتداخلة، والأمكنة "المتاهة" في سياق الثورة/ الحرب التي مزّقت الجغرافيا، ضمن تمزيق المجتمع الذي يجري تمزيقه منذ عقود.
الرحلة/ الرواية، هي كناية عن حياة متنقّلة لعائلة تفسّخت منذ سنوات ما قبل الثورة/ الحرب، وكانت الجثّة هي "الجامع" الوحيد للإخوة، في الميكرو، أي في مكان متحرّك، دلالة على طبيعة العلاقة بين ركّابه، في جغرافيا، محكومة بما أنتجته الحرب من حواجز متعارضة، بعضها للنظام والقوى المتحالفة معه، وبعضها ضمن "المناطق المحرّرة"، بحسب الرّواية نفسها، وتسيطر عليها قوى عدة مختلفة، بل متناحرة ومتصادمة. ما يجعل الرحلة محفوفة بالمقامرة. لكنّ غاية الرحلة، وهي تنفيذ وصية الأب، وتوصيل الجُثة إلى القرية، تبرّر الثمن الباهظ الذي يدفعه الأبناء، من دون أن يعلموا مسبقاً بأنهم سيدفعونه، ولو علموا بالثمن ما غامروا، حتى إنهم فكروا كثيرا بالتخلص من الجثة، خلال الرحلة.
العائلة أم البلد؟
محاور كثيرة تتطلب الوقوف لدى كل منها، وقفات تأمّل وتحليل، وهذه مهمة صعبة، ويبدو اختيار عائلة عبد اللطيف، بوصفها المحور الأساس، هو الخيار الأشدّ إلحاحا، كما يبدو اختيار شخصية بلبل، كونه صوتا أساسيا للعائلة، خيارا جيدا للإمساك بخيوط الرواية المتشعبة والمتداخلة، على نحو جعل منها (من الرواية)، صورة للمتاهة التي يعيشها الإنسان السوري، وربما العربيّ، لجهة النبذ والتهميش اللذين يمتهنان إنسانيته كلها، لا كرامته وحسب.
الأب عبد اللطيف وحسين وفاطمة ونبيل والأمّ، يعنينا منهم حيوات ومصائر الأبناء في صورة أساسية. وبدءاً من بناء شخصية الأب، فهو منذ بداياته، كان واحدا من ثلاثة شبّان - "الفُرسان الثلاثة" - في العائلة نالوا الثانوية في أوائل الستينيات، و"ساروا حُفاةً إلى المدرسة، وزّعوا مناشير حزب البعث وسُجنوا، تعرّضوا لسياط الجلّادين وصمدوا.."، ثمّ غادر القرية رافضا مشاركة أقربائه "ثاراتهم العائلية التي اعتبرها تخلّفا لا يليق بأناس يعيشون في أواخر القرن العشرين". هذا من جهة، ومن جهة مقابلة فهو الذي "لم يستطع حتى مؤازرة أخته ليلى في رفضها الزواج برجل لا تحبّه". لكنه في النهاية الرجل "الذي بقي مؤمنا، بما لا يقبل أيّ شكّ، بتحرير فلسطين كاملة".
أما نبيل، والذي كان سعيدا بتحول اسمه هذا إلى (بلبل) على لسان عشيقته لمياء، فهو شخصية تنطوي على تعقيدات أساسها الضعف والهشاشة والطموحات الوهمية، شخصية بأبعاد إنسانية في الأساس، تكتسب ملامحها السورية ضمن سياقات الرواية ومعطياتها المحددة. في حين أن شخصية حسين، مركبة من التمرّد والطموح إلى تحقيق الذات بصرف النظر عن الوسيلة، لذا فهو ينتهي سائقا لفتيات الملاهي، لينعته الأب بـ"القوّاد". ولعلّ الشخصية الأضعف في العائلة، هي شخصية فاطمة، الشخصيّة الرمادية على شيء من القوة والحنان والدفء، فقد تعرضت لانتكاسة كبيرة بزواجها من رجل انتهازيّ/ وصوليّ، اعتقدت أنه ذو مال ونفوذ، لتكتشف أنه مجرد تابع، فانتهت علاقتها معه بالمخالعة، وبعودتها "إلى غرفتها في منزل أهلها فاقدة التوازن ومخدوشة الكبرياء، غير مصدّقة أن كل شيء انتهى، وأن ثمنها فقط ست حقائب محشوة بألبسة وأحذية مستعملة، ومجموعة زجاجات عطور مزوّرة، بالإضافة إلى مائتي ألف ليرة سورية دفعها ممدوح كمؤخر بعد توقيع الطرفين على عقد المخالعة".
العلاقة بين أفراد عائلة عبد اللطيف تتكشف عن تعقيدات يصعب فهمها، لكنّها تعقيدات في أساس البنية الروائية، حيث يتغلغل الكاتب عميقا في الكشف عن نفوسٍ وأرواح هالكة، رغم ما يبدو من تماسك خارجيّ هش. وبالوقوف أمام بعض الخلاصات التي يتوصل إليها "أبطال" الرواية، وهم في الغالب أبطال بالمعنى السلبي للبطولة، نجد أن الجميع هنا محكومون، لا بالأمل كما كان يعتقد سعد الله ونّوس، بل بالانهيار والنهايات الكارثية. وهذه واحدة من الخلاصات الأساسية التي تنفثها الرواية، وهي خلاصات كثيرة، خصوصا لو أخذنا في الاعتبار مصير شخصية بلبل بعد استعادة اسمه الحقيقي (نبيل) بين أهل قريته، لكنّه يعود إلى بيته في دمشق، فـ"يغسل رأسه، ويندسّ في فراشه مثل جرذ كبير يعود إلى جُحره البارد، كائن لا لزوم له، ومن الممكن التخلي عنه ببساطة". وكأنّنا أمام نسخة جديدة من صرصار كافكا.
ولعل من الضروريّ أيضا، الوقوف على علاقة حسين ونبيل في صورة خاصة، فهي قائمة على الخصام والتحدّي على نحو خاص، وهو ما يظهر طوال "رحلة الدّفن"، خصوصا أنها تبلغ مداها في صورة عراك بالأيدي يدمي الطرفين، وإن انتهى لمصلحة حسن، لكن الأهم في هذا العراك أنه يمكن أن يجسّد حالة من حالات الصراع بين طرفين من مكوّنات الشعب السوريّ.
بين الواقعية والعبث
"أسوأ ما في الحرب تناسل الأفعال الغرائبية، وتحول القصص المأساوية إلى حدث عاديّ". هذه العبارة تؤكد أنه رغم الطابع الواقعيّ، المُغرق في واقعيته، للرواية، فإن الشعور العامّ الطاغي على ما يجري فيها هو شعور بالهذيان والهلوسة الكابوسية، لجهة عدم القدرة على تصديق ما يجري من سلوكيّات هي دون السلوك البشري والإنساني، حتى داخل العائلة الصغيرة نفسها، أو العائلة الممتدة، والبلد عموما. فمجرد استعادة مشهد "اعتقال الجثة" على حاجز للنظام، يكشف مدى احتقار الإنسان في هذا البلد، إذ لا يمكن تصديق أنهم "اعتقلوا الجثة"، لأن "الأب كان مطلوبا لأكثر من فرع مخابرات منذ أكثر من سنتين". وحين تساءل الابن باندهاش "شرح له الضابط أن أباه بالنسبة للسجلّات ما زال حيّا ومطلوبا، لا يهم إن كان جثّة أو جيفة..". وذهب إلى ما هو أكثر في التأكيد على تدنّي قيمة الإنسان وهو يوضح أن "البشر بالنسبة إلى الدولة مجموعة وثائق وأوراق، وليسوا كيانا مادّيا أو روحيّا..".
يكفي أيضا استعراض حكاية ليلى التي أحرقت نفسها بطريقة خرافية، رافضة الزواج الذي أرادت العائلة فرضه عليها، حكاية مصيرية ذات أبعاد واقعية ورمزية في آن، تمكّن الكاتب من اختزالها في سطور قليلة، ففي حين كان عبد اللطيف يرغب في قبر مشترك مع شقيقته التي تخلى عنها في محنتها، فإنّ ليلى "لم تكن ترغب في مشاركة أحد من عائلتها قبرَها، تريد قبرا متفرّدا لا أحد يجرؤ على النوم فيه سواها". وحتّى بعد موتها ودفنها، ظلت "أسطورتها تكبر يوما بعد آخر.."، وكانت العائلة تخشى من رمزية هذه الحكاية، فاختارت لها قبرا معزولا ومُهمَلا، حيث كان "يجب أن لا تتحول ليلى إلى ولية وشفيعة للعشاق..".
تنطوي الرواية أيضا، في جانب بارز منها، على رؤية الكاتب خليفة إلى المستوى الطبقي للصراعات التي فجّرتها الثورة، هذا المستوى الذي يتمظهر في صور كثيرة، حيث يبرز التمييز جليّا بين الفقراء والأغنياء، بين المعدمين وذوي الامتيازات الخاصة والرفيعة. وفي عرض سريع لهذا الجانب، نجد الفقراء في الخليط من السوريّين "مسيحيون ودروز ومسلمون فقراء من كل الطوائف"، ولعلّ واحدا من أبرز مظاهر هذا التمييز يبدو في أن "الفقراء لا يجدون حتى سيارة إسعاف تنقلهم إلى المقبرة". والأدهى أن يجري هذا التمييز في داخل مؤسسات كمؤسّستَيْ الجيش والأمن، إذ يبدو التمييز واضحا بين الجنود ما بين حاجز وحاجز "هؤلاء الجنود فقراء أكثر مما يجب،.. جنود جيش وليسوا مخابرات أو كتائب خاصة".
الحب في زمن الموت
القسوة التي تميّز حوادث وتفاصيل الرواية، تقابلها علاقات حب على درجة عالية من العاطفة الإنسانية، أبرزها علاقة عبد اللطيف ونيفين، ومن قلب الموت، من المقبرة تحديدا، تولد وتتنامى علاقة عميقة ومشاهد فرح باهرة. العلاقة الأشدّ حميمية هي بين الأب ونيفين، وزواجه منها. نغوص مع تأملات الكاتب وتصويره هذه العلاقة "الحب الذي يجرف كل الماضي دفعة واحدة، يجب فتح كل الأبواب له، ومساعدته على غسل أعماقنا"، ونعود مع الأب بذاكرته حين شاهد نيفين للمرة الأولى، قبل أربعين سنة، حين كانت "فتاة شابة وحلوة دخلت إلى غرفة المدرسين كمعلمة للرسم"، لكنها في غيابه تزوجت صديقه، وتمرّ الأيام لتجمعهما الحرب والخراب والدم، وكونها وحيدة بعد موت زوجها، ولا ترغب في قضاء بقية عمرها وحيدة، وبينما هو يتفقد الكنيسة، تحضر هي ويحدث التقارب و"يغرقان في قبلة طويلة.."، ثم "ذهبا إلى منزل الشيخ لتزويجهما.."، وكانت هذه مناسبة للفرح حيث "أطلق المقاتلون الرصاص في الهواء احتفالا بالعروسين"، وفي الأثناء "يشعل لها الشموع كل ليلة، يعيدان ترتيب المكان من جديد، يتنقّلان بخفّة بين الخرائب، يتبادلان قبلات طويلة في المنازل المهجورة المهدمة، يحتضنان بعضهما كأنهما سيفترقان بعد لحظات قليلة".
(كاتب وشاعر من الأردن)
اقرأ أيضا
فنجان قهوة مع خالد خليفة
سفيتلانا ألكسيفيتش... السورية
أحاول، في قراءتي هذه، التقاط النسغ الأساسي المحرّك لعناصر ومكوّنات الرواية، الرواية التي تمزج الموت بالجنون والحب بالكراهية، لكن ليس كما رأيناه في روايتَيْ خالد "مديح الكراهية"، و"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، السابقتين على هذه الرواية. فنحن هنا حيال عمل أشد خشونة وقسوة للتعبير عن عالم أشد "قذارة"، عالم تعبّر عنه وتمثّله "جثّة تتفسّخ وتتحلّل"، وتصدر عنها روائح قاتلة. ولن أذهب إلى البحث عن الدلالات البعيدة والأعمق لهذه "الجثة"، حتّى لا أقول إن الجثة هي تجسيد لسورية.. حتّى لو كان المقصود "سورية البعث"، أو "سورية الأسَدَين".
شخوص وزمن ومكان
الرحلة الممتدة بين لحظة حضور موت الأب عبد اللطيف السالم، في منزل ابنه بُلْبُل (نبيل)، في أحد أحياء دمشق، ووصيته بأن يدفن في قريته "العنّابية"، في ريف حلب، بجانب والدته وشقيقته ليلى، ثم بدء التوجه إلى القرية، في "ميكروباص" يقوده ابنُه حسين ويرافقه بلبل والشقيقة فاطمة، وصولاً إلى عملية الدفن، وبين عودة الإخوة الثلاثة إلى دمشق، رحلة تستغرق بضعة أيام، يخالُها القارئ ألف عام، فهي رحلة في الزمن والمكان اللذين يجسّدان شخصيتين مهمّتين من شخوص الرواية، حيث دوائر الزمن المتداخلة، والأمكنة "المتاهة" في سياق الثورة/ الحرب التي مزّقت الجغرافيا، ضمن تمزيق المجتمع الذي يجري تمزيقه منذ عقود.
الرحلة/ الرواية، هي كناية عن حياة متنقّلة لعائلة تفسّخت منذ سنوات ما قبل الثورة/ الحرب، وكانت الجثّة هي "الجامع" الوحيد للإخوة، في الميكرو، أي في مكان متحرّك، دلالة على طبيعة العلاقة بين ركّابه، في جغرافيا، محكومة بما أنتجته الحرب من حواجز متعارضة، بعضها للنظام والقوى المتحالفة معه، وبعضها ضمن "المناطق المحرّرة"، بحسب الرّواية نفسها، وتسيطر عليها قوى عدة مختلفة، بل متناحرة ومتصادمة. ما يجعل الرحلة محفوفة بالمقامرة. لكنّ غاية الرحلة، وهي تنفيذ وصية الأب، وتوصيل الجُثة إلى القرية، تبرّر الثمن الباهظ الذي يدفعه الأبناء، من دون أن يعلموا مسبقاً بأنهم سيدفعونه، ولو علموا بالثمن ما غامروا، حتى إنهم فكروا كثيرا بالتخلص من الجثة، خلال الرحلة.
العائلة أم البلد؟
محاور كثيرة تتطلب الوقوف لدى كل منها، وقفات تأمّل وتحليل، وهذه مهمة صعبة، ويبدو اختيار عائلة عبد اللطيف، بوصفها المحور الأساس، هو الخيار الأشدّ إلحاحا، كما يبدو اختيار شخصية بلبل، كونه صوتا أساسيا للعائلة، خيارا جيدا للإمساك بخيوط الرواية المتشعبة والمتداخلة، على نحو جعل منها (من الرواية)، صورة للمتاهة التي يعيشها الإنسان السوري، وربما العربيّ، لجهة النبذ والتهميش اللذين يمتهنان إنسانيته كلها، لا كرامته وحسب.
الأب عبد اللطيف وحسين وفاطمة ونبيل والأمّ، يعنينا منهم حيوات ومصائر الأبناء في صورة أساسية. وبدءاً من بناء شخصية الأب، فهو منذ بداياته، كان واحدا من ثلاثة شبّان - "الفُرسان الثلاثة" - في العائلة نالوا الثانوية في أوائل الستينيات، و"ساروا حُفاةً إلى المدرسة، وزّعوا مناشير حزب البعث وسُجنوا، تعرّضوا لسياط الجلّادين وصمدوا.."، ثمّ غادر القرية رافضا مشاركة أقربائه "ثاراتهم العائلية التي اعتبرها تخلّفا لا يليق بأناس يعيشون في أواخر القرن العشرين". هذا من جهة، ومن جهة مقابلة فهو الذي "لم يستطع حتى مؤازرة أخته ليلى في رفضها الزواج برجل لا تحبّه". لكنه في النهاية الرجل "الذي بقي مؤمنا، بما لا يقبل أيّ شكّ، بتحرير فلسطين كاملة".
أما نبيل، والذي كان سعيدا بتحول اسمه هذا إلى (بلبل) على لسان عشيقته لمياء، فهو شخصية تنطوي على تعقيدات أساسها الضعف والهشاشة والطموحات الوهمية، شخصية بأبعاد إنسانية في الأساس، تكتسب ملامحها السورية ضمن سياقات الرواية ومعطياتها المحددة. في حين أن شخصية حسين، مركبة من التمرّد والطموح إلى تحقيق الذات بصرف النظر عن الوسيلة، لذا فهو ينتهي سائقا لفتيات الملاهي، لينعته الأب بـ"القوّاد". ولعلّ الشخصية الأضعف في العائلة، هي شخصية فاطمة، الشخصيّة الرمادية على شيء من القوة والحنان والدفء، فقد تعرضت لانتكاسة كبيرة بزواجها من رجل انتهازيّ/ وصوليّ، اعتقدت أنه ذو مال ونفوذ، لتكتشف أنه مجرد تابع، فانتهت علاقتها معه بالمخالعة، وبعودتها "إلى غرفتها في منزل أهلها فاقدة التوازن ومخدوشة الكبرياء، غير مصدّقة أن كل شيء انتهى، وأن ثمنها فقط ست حقائب محشوة بألبسة وأحذية مستعملة، ومجموعة زجاجات عطور مزوّرة، بالإضافة إلى مائتي ألف ليرة سورية دفعها ممدوح كمؤخر بعد توقيع الطرفين على عقد المخالعة".
العلاقة بين أفراد عائلة عبد اللطيف تتكشف عن تعقيدات يصعب فهمها، لكنّها تعقيدات في أساس البنية الروائية، حيث يتغلغل الكاتب عميقا في الكشف عن نفوسٍ وأرواح هالكة، رغم ما يبدو من تماسك خارجيّ هش. وبالوقوف أمام بعض الخلاصات التي يتوصل إليها "أبطال" الرواية، وهم في الغالب أبطال بالمعنى السلبي للبطولة، نجد أن الجميع هنا محكومون، لا بالأمل كما كان يعتقد سعد الله ونّوس، بل بالانهيار والنهايات الكارثية. وهذه واحدة من الخلاصات الأساسية التي تنفثها الرواية، وهي خلاصات كثيرة، خصوصا لو أخذنا في الاعتبار مصير شخصية بلبل بعد استعادة اسمه الحقيقي (نبيل) بين أهل قريته، لكنّه يعود إلى بيته في دمشق، فـ"يغسل رأسه، ويندسّ في فراشه مثل جرذ كبير يعود إلى جُحره البارد، كائن لا لزوم له، ومن الممكن التخلي عنه ببساطة". وكأنّنا أمام نسخة جديدة من صرصار كافكا.
ولعل من الضروريّ أيضا، الوقوف على علاقة حسين ونبيل في صورة خاصة، فهي قائمة على الخصام والتحدّي على نحو خاص، وهو ما يظهر طوال "رحلة الدّفن"، خصوصا أنها تبلغ مداها في صورة عراك بالأيدي يدمي الطرفين، وإن انتهى لمصلحة حسن، لكن الأهم في هذا العراك أنه يمكن أن يجسّد حالة من حالات الصراع بين طرفين من مكوّنات الشعب السوريّ.
بين الواقعية والعبث
"أسوأ ما في الحرب تناسل الأفعال الغرائبية، وتحول القصص المأساوية إلى حدث عاديّ". هذه العبارة تؤكد أنه رغم الطابع الواقعيّ، المُغرق في واقعيته، للرواية، فإن الشعور العامّ الطاغي على ما يجري فيها هو شعور بالهذيان والهلوسة الكابوسية، لجهة عدم القدرة على تصديق ما يجري من سلوكيّات هي دون السلوك البشري والإنساني، حتى داخل العائلة الصغيرة نفسها، أو العائلة الممتدة، والبلد عموما. فمجرد استعادة مشهد "اعتقال الجثة" على حاجز للنظام، يكشف مدى احتقار الإنسان في هذا البلد، إذ لا يمكن تصديق أنهم "اعتقلوا الجثة"، لأن "الأب كان مطلوبا لأكثر من فرع مخابرات منذ أكثر من سنتين". وحين تساءل الابن باندهاش "شرح له الضابط أن أباه بالنسبة للسجلّات ما زال حيّا ومطلوبا، لا يهم إن كان جثّة أو جيفة..". وذهب إلى ما هو أكثر في التأكيد على تدنّي قيمة الإنسان وهو يوضح أن "البشر بالنسبة إلى الدولة مجموعة وثائق وأوراق، وليسوا كيانا مادّيا أو روحيّا..".
يكفي أيضا استعراض حكاية ليلى التي أحرقت نفسها بطريقة خرافية، رافضة الزواج الذي أرادت العائلة فرضه عليها، حكاية مصيرية ذات أبعاد واقعية ورمزية في آن، تمكّن الكاتب من اختزالها في سطور قليلة، ففي حين كان عبد اللطيف يرغب في قبر مشترك مع شقيقته التي تخلى عنها في محنتها، فإنّ ليلى "لم تكن ترغب في مشاركة أحد من عائلتها قبرَها، تريد قبرا متفرّدا لا أحد يجرؤ على النوم فيه سواها". وحتّى بعد موتها ودفنها، ظلت "أسطورتها تكبر يوما بعد آخر.."، وكانت العائلة تخشى من رمزية هذه الحكاية، فاختارت لها قبرا معزولا ومُهمَلا، حيث كان "يجب أن لا تتحول ليلى إلى ولية وشفيعة للعشاق..".
تنطوي الرواية أيضا، في جانب بارز منها، على رؤية الكاتب خليفة إلى المستوى الطبقي للصراعات التي فجّرتها الثورة، هذا المستوى الذي يتمظهر في صور كثيرة، حيث يبرز التمييز جليّا بين الفقراء والأغنياء، بين المعدمين وذوي الامتيازات الخاصة والرفيعة. وفي عرض سريع لهذا الجانب، نجد الفقراء في الخليط من السوريّين "مسيحيون ودروز ومسلمون فقراء من كل الطوائف"، ولعلّ واحدا من أبرز مظاهر هذا التمييز يبدو في أن "الفقراء لا يجدون حتى سيارة إسعاف تنقلهم إلى المقبرة". والأدهى أن يجري هذا التمييز في داخل مؤسسات كمؤسّستَيْ الجيش والأمن، إذ يبدو التمييز واضحا بين الجنود ما بين حاجز وحاجز "هؤلاء الجنود فقراء أكثر مما يجب،.. جنود جيش وليسوا مخابرات أو كتائب خاصة".
الحب في زمن الموت
القسوة التي تميّز حوادث وتفاصيل الرواية، تقابلها علاقات حب على درجة عالية من العاطفة الإنسانية، أبرزها علاقة عبد اللطيف ونيفين، ومن قلب الموت، من المقبرة تحديدا، تولد وتتنامى علاقة عميقة ومشاهد فرح باهرة. العلاقة الأشدّ حميمية هي بين الأب ونيفين، وزواجه منها. نغوص مع تأملات الكاتب وتصويره هذه العلاقة "الحب الذي يجرف كل الماضي دفعة واحدة، يجب فتح كل الأبواب له، ومساعدته على غسل أعماقنا"، ونعود مع الأب بذاكرته حين شاهد نيفين للمرة الأولى، قبل أربعين سنة، حين كانت "فتاة شابة وحلوة دخلت إلى غرفة المدرسين كمعلمة للرسم"، لكنها في غيابه تزوجت صديقه، وتمرّ الأيام لتجمعهما الحرب والخراب والدم، وكونها وحيدة بعد موت زوجها، ولا ترغب في قضاء بقية عمرها وحيدة، وبينما هو يتفقد الكنيسة، تحضر هي ويحدث التقارب و"يغرقان في قبلة طويلة.."، ثم "ذهبا إلى منزل الشيخ لتزويجهما.."، وكانت هذه مناسبة للفرح حيث "أطلق المقاتلون الرصاص في الهواء احتفالا بالعروسين"، وفي الأثناء "يشعل لها الشموع كل ليلة، يعيدان ترتيب المكان من جديد، يتنقّلان بخفّة بين الخرائب، يتبادلان قبلات طويلة في المنازل المهجورة المهدمة، يحتضنان بعضهما كأنهما سيفترقان بعد لحظات قليلة".
(كاتب وشاعر من الأردن)
اقرأ أيضا
فنجان قهوة مع خالد خليفة
سفيتلانا ألكسيفيتش... السورية