الحال الفلسطينية والنُخبة السياسية
يتأسّى الفلسطينيّون، في هذه الأثناء، على هزال الطبقة السياسية الراهنة ولا فاعليتها، أو ما تسمى "النُخبة". ومعلوم أن وضعية الاشتباك مع المحتلين، بالمقاومة المسلحة، وحدها التي أعطت للعناوين الفصائلية أدوارها ومقاعدها في إطار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. ولمّا طويت صفحة المقاومة، لعوامل موضوعية وذاتية، ثم بدأت محاولة التسوية التي انتهت بالفشل؛ تحولت هذه العناوين، كبيرها وصغيرها، إلى كيانات رخوة، حاضرة غائبة، لا يرقى واحدها إلى سويّة الأحزاب الرائدة في حسم الخيارات، ولا تمتلك، مجتمعةً، أية قدرة على التأثير في شيء ذي صلة بسياقات السياسة وإدارة حياة المجتمع. فهي تتلقى المُقوّم المالي، لبقائها ولحياة منتسبيها، من خزينة سلطةٍ ليس لأي طرف فصائلي أية سلطة عليه!
لا يختلف اثنان على أن الفصائل، وهي في التردي؛ أصبحت فاقدة القدرة على الإجابة عن أسئلة المواطن الفلسطيني، وليس في وسعها حتى أن تطرح أحكاماً قيمية تساعد الوعي الجمعي على فهم طبيعة المرحلة والمآلات التي وصلت اليها القضية الفلسطينية. وعندما يفقد أي مجتمع فاعلية طبقته السياسية، تتجه تفاعلاته الداخلية إلى تعزيز عملية إنتاج طبقة سياسية بديلة، تحث محركات التغيير ذات الطابع التاريخي. ولا ندعو، هنا، إلى شطب العناوين الفصائلية، القادرة على الاستمرار بقوة الشباب الحيّة، وإنما إلى شطب رزاياها ورميم فحواها، وإلى أخذها إلى دروب الرؤية والعمل الممنهج والقدرة على القيام بنفسها، فلا تكون عبئاً على الناس!
هنالك شعور عام بصعوبة إحداث التغيير، يغذيه الإحساس بوجاهة الانتظار. ثمّة أغلبية تنتظر، وأقليه تتهيأ، غير أن التدقيق في سلوك ومقاصد أشخاص الأقلية التي تتهيأ، يجعلنا نجزم أن المخاض سيكون صادماً، وأنه سيعيدنا القهقرى، الى ما هو دون مستوى النُخب في مرحلة الزعامات التقليدية في العشرينيات. ولعل السبب الأول لهذا الافتراض غياب تقاليد الحياة السياسية الديموقراطية وتفاعلاتها المجتمعية، حتى بات من الضرورة ظهور قوى اجتماعية وسياسية جديدة، تُعلي من شأن المشتركات الطبيعية بين مكونات الشعب الفلسطيني، الموزع في أربعة فضاءات مغلقة أو مكبلة، كلٌّ منها باتت رهن ضوابط وظروف محددة، لا تساعد على إحداث تغيير عاجل: الضفة وغزة، وأراضي 48 والشتات.
إعلاء شأن المشتركات، وإنعاش الوعي الوطني الجمعي، والتسامي على الحسابات الصغيرة، المناطقية، والشخصية؛ تشكل كلها عوامل لإنفاذ المبادئ التي عاش الوجدان الفلسطيني، طويلاً، في كنفها، وازدان بها. وبالتالي، باتت الدعوات لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية تتطلب نُخُباً اجتماعية وسياسية جديدة، تنهض بمهمة الحفاظ على الإرث الكفاحي الفلسطيني، وتفتح له مسالك الاستمرار!
يمثل الوضع الكارثي في العالم العربي عاملاً موضوعياً، يستحث عملية تغيير في الفضاءات الفلسطينية. فالفصائل، أصلاً، كانت تستند إلى اجتهادات أيديولوجية على المستويين، القومي والأممي، أو شكلت جيوباً في المشهد الفلسطيني، لأنظمة في الإقليم بادت أو ترنحت. لكن التطورات العربية جعلت الشعوب الشقيقة معنية بنفسها. لذا، فإن التحدّي الذي ينتظر أية طبقة سياسية فلسطينية جديدة هو تكريس منطق الاعتماد على النفس، والحيلولة دون تفشي الإحساس بلا جدوى النضال الوطني، ودحض منطق اليائسين، مع الحيلولة دون تكرار تجربة السلطة التي كلما تفاقم شططها وترف متنفذيها، سعت إلى تلافي النقص المفترض الذي يتهدد شرعيتها، بالمزج بين بلاغة الطنين الوطني مع التأكيد اللفظي على "الثوابت"، والقبضة الأمنية التي باتت تلاحق "اللايكات" على برامج التواصل الاجتماعي. المهمة الأولى للطبقة السياسية التي لا بد من تشكلها إنهاء منطق الاستحواذ الذي لا يميز بين الخاص والعام، ويرى أن الوطن والقضية والكيانية، والفضاءات الفلسطينية كلها، ملكاً خاصاً للمتزعم الذي يكون الولاء له فوق الولاء للوطن وللقضية!