الحالة السورية استثناءً عربياً

03 سبتمبر 2014

تظاهرة ثورية في حي البستان في حلب (15 آذار/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

دخلت الثورة السورية عامها الرابع، وهي مدة طويلة، مقارنة بمثيلاتها من ثورات واحتجاجات انتهت بإزالة الأنظمة الشمولية في بلدان عربية أخرى، وبدأت مرحلة جديدة لتأسيس نظام الحكم الديمقراطي.

لماذا فشلت الثورة السورية في تغيير نظام الحكم، حتى الآن، في حين نجحت ثورات عربية في تحقيق ذلك، بتكاليف أقل بكثير؟ ثمة سببان تتفرد بهما الحالة السورية عن نظيراتها العربية، وتجعل من إطلاق وصف الاستثناء السوري، أو المسألة السورية، حكماً موضوعياً:
 
الأول، طبيعة النظام الحاكم، فقد أحدث حافظ الأسد بوصوله إلى السلطة قطيعة مع المراحل السابقة التي شهدتها سورية منذ الاستقلال، معه انتهت مرحلة الانقلابات والاضطرابات السياسية، وانتهت معها، أيضاً، إمكانية أي حراك سياسي مستقبلي. وقد عمد الأسد، بداية، إلى تأسيس منظومة حكم قائمة على علاقة تداخلية تخارجية في آن معاً للمؤسستين العسكرية والحزبية، بدأ، أولاً، بتعزيز قاعدته العسكرية في الجيش، وهي قاعدة متنوعة طائفياً، لتحقيق هدفين متكاملين: الأول ضمان ولاء الجيش له، والثاني فصل الجيش عن حزب البعث، للتخلص من ضغوط الحزب الأيديولوجية الراديكالية، ثم اتجه إلى تعزيز ضباط علويين موثوقين في المناصب الحساسة، للتخلص من ضغوط المؤسسة العسكرية، الأمر الذي أعطاه قدرة أكبر على التحرك.

وإذا كانت المؤسستان، العسكرية والأمنية، قد منحتا نظام الأسد القدرة على السيطرة، فإن الأمر يتطلب أكثر من ذلك لتوسيع السلطة، أو البقاء في الحكم مدة طويلة، ذلك أن الشعوب لا تحكم بالقسر فقط، بل بالأفكار أيضا.

كان الأسد في حاجة إلى الهيمنة بالمفهوم الغرامشي، وكان حزب البعث الأداة الأيديولوجية لذلك، لأن الأفكار السائدة تحافظ على تماسك الوحدة المتوازنة، المؤلفة من الدولة والمجتمع، والتي تشكل نمطاً تاريخياً معيناً للمبنى الفوقي. وعلى الرغم من التدمير الذي لحق بالقاعدة الاجتماعية لـ"البعث" في عهد الرئيس بشار الأسد، بفعل السياسات الاقتصادية المتهورة، إلا أن الحزب ظل، أحد أعمدة النظام، بعدما تحولت القيادة القطرية للحزب والجبهة الوطنية التقدمية من نخبة أيديولوجية إلى نخبة إقطاعية ـ بيروقراطية، لها مصلحة في بقاء نظام الحكم على حاله.

تحولت هذه الفئة مع بارونات الجيش والأمن إلى أوليغارشية سياسية ـ اقتصادية، عابرة للطوائف، ولها مصلحة قوية في بقاء النظام. ويسأل رايموند هينبوش في كتابه المهم جداً "سورية ثورة من فوق" عن الأسباب التي جعلت النظام يبقى صامداً أمام التمرد الإخواني بداية الثمانينيات، ويجيب "تماسك مؤسسات النظام يفسر بأمرين: الشبكة العلوية التي تسيطر على هذه المؤسسات، وجذورها في القرية التي كانت تستغلها القوات المدينية التي مثلت الثورة الإسلامية، وقد أدى التركيب الحزبي والطائفي للنظام الذي اخترق البيروقراطية التي يهيمن عليها السنّة والقرى، إلى جعلهم غير متاحين للتعبئة ضد النظام إلى حد كبير". ومع أن هينبوش كان يتحدث عن عهد حافظ الأسد، إلا أن تركيبة منظومة الحكم ظلت، كما هي، في عهد بشار الأسد، وإن اختلفت موازين القوى فيها، وظلت هذه المنظومة تؤدي الدور نفسه الذي كانت تؤديه في أثناء حكم حافظ الأسد في تماسك النظام.

في مقطع يختزل أسباب تماسك النظام السوري بعد سنتين من الثورة، يكتب عزمي بشارة "ما يجعل التمايز بين النظام والمجتمع صعباً هو الرابط نفسه الذي يجعل فصل الدولة عن النظام صعباً أيضاً.. إن القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، والتمييز بينهما، هي التي مكّنت الجيش من الامتناع عن استخدام القوة العسكرية مساندة للنظام في صراعه ضد الشعب، في حالتي مصر وتونس، ونظراً لصعوبة هذا الفصل في سورية، بدا النظام أكثر تماسكاً وقسوة في الوقت ذاته".

السبب الثاني، بنية المجتمع. وتتكون سورية من فسيفساء اجتماعية، تشكلت على مدار مئات السنين، حيث تتألف من عدة إثنيات (عرب، أكراد، أرمن، تركمان، شركس، سريان، آشوريون)، وأكثر من 17 طائفة، يتوزعون على ديانتين رئيسيتين، الإسلام والمسيحية. وفي المجتمعات المركبة إثنياً وطائفياً مع دولة تسلطية ما قبل حداثية، يتداخل ما هو سياسي مع ما هو اقتصادي واجتماعي وديني وطائفي وعشائري، بحيث يصعب تمييز السلوك السياسي، أو الاقتصادي عن السلوك الهوياتي، وسرعان ما تسيس الهويات الفرعية في أوقات الأزمات، وتعيد أو يعاد إنتاجها، للحفاظ على كينونتها السياسية والاجتماعية.

ومع ذلك، ليس المزاج، أو البنية الاعتقادية هذه، مبنية على تصورات ميتافيزيقية محضة، بل مبنية على وقائع إمبريقية، وإن تضمنت تضخيماً أيديولوجياً. لقد أثبتت الأزمة في سورية تماهي الطائفة العلوية مع النظام تماهياً يكاد يكون تاماً، ووجدت في سقوط النظام سقوطا لها.

يرجع محمد جمال باروت تماهي الطائفة مع سلطة الدولة، بسبب الشبكات الزبونية التي تربط وكلاءها الاجتماعيين مع منافع الدولة، وبسبب تكورها الطائفي الذاتي، أيضا، وليس لأن الطائفة العلوية ترى أن النظام نظامها بالضرورة، فلم يكن النظام السوري نظام الطائفة المسيحية أو العلوية، أو غيرهما.

صحيح أن النخبة العليا الحاكمة ظلت ائتلافاً عابراً للطوائف، ولم يكن النظام علوياً أو مسيحياً، لكن الصحيح، أيضاً، أن الطائفة العلوية هي قلب هذا الائتلاف، وصحيح أن النظام لم يكن طائفياً لجهة توزيع الثروة والأعطيات، فإن الصحيح، أيضاً، أن توزيع الثروة لم يكن ناجماً عن مبادئ قيمية في عدالة توزيع الثروة، بقدر ما هو ناجم عن تسييس هذه الثروة، من أجل شراء الولاءات، وهذا ما يبدو أن باروت نسيه، ومع هذه المحاصصات، لم تعد المسألة من هو علوي أو من هو سني أو مسيحي، بل من هو مع النظام ومن هو ضده.

تماهي الطائفة العلوية مع النظام لا يعود، في جوهره، للشبكات الزبونية، أو الاستثمار الاقتصادي (استثمار تشارك فيه الطوائف الأخرى)، لأن هذا السبب مرتبط بالنخب المستفيدة، بشكل مباشر من النظام أو الدولة، وهذه نخب من كل الطوائف. السؤال الرئيسي: لماذا تماهت الطائفة العلوية، بمجملها، مع النظام، لا سيما الموجودين في القاع الاجتماعي ـ الاقتصادي؟ كيف يمكن تفسير تماهي الطبقات الفقيرة من العلويين مع النظام، وهي فئات لم تستفد من النظام بشكل مباشر؟

يتعلق الأمر بالمستوى السياسي عند المفترق التاريخي الذي انتقلت فيه الطائفة العلوية من طائفة اجتماعية مغلقة إلى طائفة سياسية وسَمَت تاريخ سورية المعاصر، وانعكس ذلك مباشرة في وعيها الجمعي، ونشأت أنا جمعية متضخمة، تقطع مع التاريخ الغابر، وترفض العودة إليه أو استذكاره، وترفض فكرة تغيير الواقع الحالي مع ما يستجلبه ذلك من مآسٍ في مخيلة الوعي الجمعي للطائفة، قد تنالها من الحكام الجدد إذا ما سقط النظام.

ثم تجلت الحالة الطائفية مع تخلف الأقليات الأخرى عن المشاركة في الاحتجاجات، وهو ما أضرّ الثورة كثيراً، ومنعها من التحول إلى حالة وطنية، الأمر الذي عزّز الانقسام العمودي داخل المجتمع. وبموازاة هذا الانقسام، كان ثمة انقسام أفقي حاد بين الطبقات، أو بين الريف والمدينة، بدا ذلك في رفض القوى المدينية، لا سيما البورجوازيات السنية، مواكبة شارعها للحفاظ على مكتسباتها السياسية والاقتصادية، وإذ حقق تقارب البرجوازية مع النظام فائدة مهمة، لجهة نفي الاتهامات الطائفية الموجهة للحركة الاحتجاجية، إلا أن موقف البرجوازية هذا أزال أية إمكانية لنشوء كتلة تاريخية سنية، قادرة على استثمار أكثريتها الاجتماعية إلى أكثرية سياسية فاعلة.