في وادي عبدالله في قرية طيرة حيفا المهجرّة، تصمد الحاجة هاجر الباش. هنا أبصرت النور قبل 95 عاماً، وهنا أيضاً مسقط رأس والدَيها قبلها.
في هذه القرية التي تحمل اليوم اسم "طيرة الكرمل" ويعيش فيها نحو 20 ألف يهودي، ما زالت عائلة الحاجة أم حسين متشبثة بأرضها. هي العائلة الوحيدة والأخيرة التي بقيت في القرية التي كان يأهلها سبعة آلاف نسمة في عام النكبة. ولأنها كذلك، كلما قصد مهجّر أو مغترب طيراوي مسقط رأسه في زيارة، إما من حيفا أو من مدن الضفة أو من الشتات، كانت الحاجة ترحّب به وتستقبله في بيتها. أما هو فيستمتع بسماع الحاجة وهي تقصّ عليهم حكايات القرية قبل سقوطها وقصة صمودها وعائلتها.
في يوليو/ تموز من عام 1948، سقطت طيرة حيفا وهُجّر أهاليها بأكثرهم الى دول عربية واستقروا في مخيمات للاجئين في لبنان والأردن وسورية. بعد مقاومة شهد عليها التاريخ، أتى سقوطها عقب سقوط مدينة حيفا بثلاثة أشهر. يُذكر أنّ طيرة حيفا تقع على بعد 10 كيلومترات جنوب حيفا.
"يا ويلي على العزّ الذي كان في الماضي"... من نافذة منزلها، تشير إلى البعيد قائلة: "كانت كلّ هذه الأراضي الساحلية مزروعة بالزيتون والقمح والشعير والبامية واللوبية واللوز والتين والخرّوب.. كان عزّ وخير الله". وتخبر أنّ "طيرة حيفا كانت تضمّ 20 معصرة زيتون، هي التي اشتهرت أرضها الخصبة والخضراء بالزيتون". هي ما زالت تحتفظ في ساحة بيتها بحجر معصرة زيتون من قبل النكبة.
تخبر الحاجة هاجر أنّه "قبل عام 1948، لم يكن في البلدة يهود يسكنونها. لكنّني رأيت بأمّ عيني كيف كان يأتي بعضهم إلى رجل مسنّ وضرير، ويسألونه باستمرار إن كانت توجد أرض للبيع. وفي موسم الحصاد، كنا نذهب إلى خارج القرية ونجري مع اليهود عمليات تبادل. نعطيهم نخالة القمح لنأخذ مكانها بيض الدجاج".
تكمل سردها: "كانت منطقة دير إبثاني كفر سمر، ما يسمى اليوم كفار سمير، المحاذية للشاطئ تعود إلى عائلة الإبطح بالكامل. أما نحن، عائلة زوجي، فكنا نملك 100 دونم في منطقة وادي العين. بعد النكبة، لأن زوجي لم يخرج خلال الأحداث وبقي في الطيرة، حصلنا على هذه الأرض في وادي عبدالله بدلاً من أرضنا، وإن بمساحة أقل بعشر مرات. هكذا، بقينا في بلدتنا. لا شيء أغلى وأثمن من بلد الإنسان".
من جهة أخرى، تتحدّث الحاجة هاجر عن أفراح القرية، "كان رجال الطيرة مشهورين في الدبكة والحداوي. وفي يوم الزفاف، يُلبسون الخيل قلائد الذهب لتتسابق حتى المساء. وعند الانتهاء من حمام عريس، يزفونه ويطوفون به في البلدة ويكرّمون الناس ويقدّمون لهم الخراف. كانت أيام عزّ. كان كل شيء متوفّرا في الطيرة. كانت بلد خير وعزّ، والناس يملكون ذهباً كثيراً يخبئونه في التنك بكميات". بحسرة تتابع: "قلّما كنا نحتاج إلى الخروج من البلدة لشراء شيء".
ولا تنسى الحاجة الإشارة إلى "مريمية وادي العين التي تغنيك عن كل دواء. أما مياه نبع الوادي، العين فمذاقها ولا أطيب. وكنا نحن النساء، ننتظر دورنا لنعبئ من تلك المياه".
وتذكر تفاصيل ما خبرته في عام النكبة: "بعدما قالوا لنا اخرجوا أسبوعين حتى تهدأ الأوضاع، حملت مع والدتي أولادي وركبت مع غيري من أبناء المنطقة حافلات كانت متوقفة عند مدخل الطيرة. لكنّ أبو حسين، زوجي، بقي في الطيرة. نقلتنا الحافلات إلى قرية رمانة القريبة من جنين، ومنها إلى إربد في الأردن. وبعد ليلتين إلى مخيّم النيرب في سورية. هناك، بقينا عاماً كاملاً. خرجنا من عزّ ودلال، لنصل إلى مكان من دون طعام ولا أي شيء آخر". وتروي: "في مرة، قطفت الذرة من أرض تابعة لأكراد بالقرب من حلب. وعندما سألني صاحب الأرض عن ذلك، فتحت له باب غرفتنا وقلت له: انظر هؤلاء أولادي. أريد إطعامهم. فسكت ورحل. وأنا أذكر الشام (دمشق) مدينة مثل الجنة.. جميلة جداً".
بعد انقضاء ذلك العام، طلب زوجها لمّ شمل عائلته. تقول: "هكذا عدت مع أبنائي الى الوطن. سكنّا في وادي النسناس في حيفا لمدة عامين، لنرجع بعدها إلى طيرة حيفا".
وتحكي الحاجة هاجر عن "مرارة الوحدة وقسوة الغربة في الوطن. على الرغم من بقائنا (عائلتها)، إلا أنّ كلّ أهلي، استقروا في مخيم اليرموك في سورية بعد النكبة. وقد انضمت والدتي إليهم أيضاً. ولم يعودوا". تذرف دموعها وهي تقول: "الفراق غال والرزق والأرض غاليان. أن يأخذوا أرضك ويطردوك منها.. هذا صعب جداً".