بعد تأخر السلطات الألمانية سنوات للتعامل مع شبكات اليمين المتطرف في البلاد، تواجه اليوم إرهاباً محلياً متفشياً في مختلف أنحاء الدولة، إذ تكشف المعطيات الأخيرة أن اختراق المتطرفين اليمينيين لم يقتصر على القوات الألمانية، بل وصل إلى مؤسسات الدولة المختلفة، وما تم الكشف عنه حتى الآن لا يتخطى رأس جبل الجليد. هذه المؤشرات تجعل المخاوف من إرهاب محلي سيناريو أكثر واقعية، خصوصاً أن بعض هذه المجموعات كانت تستعد لما تطلق عليه "اليوم أكس"، أي اليوم الذي ينهار فيه النظام الاجتماعي في البلاد، ما يوفر فرصة للمتشددين اليمينيين، بحسب معتقداتهم، للتدخل لـ"إنقاذ أنفسهم والأمة".
وبدأت ألمانيا التعامل متأخرة مع شبكات اليمين المتطرف، والتي يقول مسؤولون الآن إنها واسعة أكثر مما كانوا يعتقدون. وكان اختراق اليمين المتشدد و"النازيين الجدد" للقوات المسلحة الألمانية أطلق صفارة الإنذار في بلد يحاول التخلص من تاريخه النازي. وشهدت البلاد في السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في الاعتداءات والهجمات التي ينفذها هؤلاء. وأكبر قضية عرفتها ألمانيا كانت بين عامي 2000 و2011 على يد مجموعة نازية تسمى "إن إس يو" (الحركة النازية تحت الأرض)، قامت بالعديد من عمليات التفجير وقتل نحو 12 شخصاً، معظمهم من الألمان الأتراك وشرطية ألمانية. وكانت آخر محاكمات لهؤلاء قد جرت في صيف 2018 لامرأة من هذه المجموعة دينت بسبب دورها في قتل تسعة أشخاص بخلفية عرقية.
وفي تقريرها السنوي للعام 2018، قدرت الاستخبارات الألمانية الداخلية وجود 24100 يميني متشدد في البلاد، بينهم نحو 12700 يعتبرون "خطرين جداً". لكن التقرير لم يأت على ذكر مجموعة "الصليب الشمالي"، التي تأسست في مدينة غوسترو في ولاية ميكلينبرغ فيست بومرانيا شمال شرق ألمانيا، والتي كان أعضاؤها يعدون العدة لـ"اليوم أكس".
خططت مجموعة "الصليب الشمالي" لارتكاب أعمال إجرامية
وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، في تقرير لها، أن مجموعة من النازيين الجدد وضعت خطة محكمة تتضمن خطف سياسيين أعداء وناشطين مدافعين عن المهاجرين واللاجئين، ونقلهم في شاحنات إلى أماكن سرية، ومن ثم قتلهم. وأوضحت، نقلاً عن محققين، أن عنصراً في المجموعة اشترى 30 كيساً للجثث، وأن المزيد كانت مدرجة في قائمة الطلبات، بالإضافة إلى مواد كيميائية تستخدم في تفكيك المواد العضوية.
وبحسب الصحيفة، بدا ظاهرياً أن من يناقش الخطة شخصيات محترمة في المجتمع، إذ إن أحدهم هو محام وسياسي، لكنه يكره المهاجرين. وكان اثنان منهم من جنود الاحتياط العاملين في الجيش، وآخران من ضباط الشرطة، بما في ذلك القناص في الشرطة ماركو غروس، الذي كان زعيمهم، وإن بشكل غير رسمي.
وفيما كانت النواة الأولى للمجموعة، التي انطلقت عبر تطبيق للدردشة ترأسه جندية في القوات الخاصة الألمانية، وضمت جنوداً ومتعاطفين مع اليمين المتطرف، فإن غروس عدل الموضوع، إذ أقام للمجموعة التي كان يتزعمها شبكة خاصة للدردشة، تضم طبيباً ومهندساً وصاحب صالة رياضية وحتى صيادا، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم "الصليب الشمالي". ونقلت الصحيفة عن غروس قوله، في إطار وصفه للمجموعة وكيفية وضع الخطط، "بين بعضنا البعض، كنا عبارة عن قرية كاملة".
وعلى الرغم من نفيهم وضع خطط لقتل أحد، فإن المحققين والمدعين العامين، بالإضافة إلى أحد حسابات الدردشة التي حصلت عليها الشرطة من أحد الأعضاء، تظهر أنهم خططوا لأعمال إجرامية.
وكانت ألمانيا بدأت التعامل متأخرة مع شبكات اليمين المتطرف، والتي يقول مسؤولون الآن إنها واسعة أكثر مما كانوا يعتقدون. وأدى وصول اليمين المتشدد إلى القوات المسلحة الألمانية إلى إطلاق صفارة الإنذار في بلد يحاول التخلص من تاريخه النازي. ففي يوليو/تموز الماضي، حلت الحكومة فرقة كاملة في القوات الخاصة بعد أن اخترقها المتطرفون. لكن قضية مجموعة "الصليب الشمالي"، التي بدأت محاكمتها أخيراً بعد أكثر من 3 سنوات من اكتشافها، تُظهر أن مشكلة اختراق اليمين المتطرف ليست جديدة أو محصورة في القوات الخاصة، أو حتى الجيش فقط. وقال مسؤولون ومحامون، لصحيفة "نيويورك تايمز"، إن المتشددين اليمينيين اخترقوا عدة طبقات من المجتمع الألماني، عندما كانت السلطات تقلل من أهمية تهديدهم أو كانت مترددة في مواجهتهم، بينما أصبحت الآن تجاهد من أجل اقتلاعهم من جذورهم. وظهر أن أحد الدوافع المركزية للمتطرفين بعيد المنال وخيالي، لدرجة أن السلطات والمحققين لم يأخذوا الأمر على محمل الجد لفترة طويلة، حتى عندما اكتسب هذا الأمر أهمية أكبر داخل الدوائر اليمينية المتطرفة. ويسمي النازيون الجدد والمتشددون الآخرون اللحظة بـ"اليوم أكس"، أي عندما ينهار النظام الاجتماعي في البلاد، ما يجبر المتشددين، بحسب معتقداتهم، على إنقاذ أنفسهم والأمة. واستطاع الداعون إلى "اليوم أكس"، جذب أشخاص لديهم مهارات وطموح. وتعتبر السلطات الألمانية أن السيناريو هو ذريعة لإرهاب محلي من قبل اليمينيين المتطرفين، أو حتى السيطرة على الحكومة. وقال المحامي ديرك فريدريزيك للصحيفة "أخاف من أننا نرى رأس الجليد فقط"، موضحاً أن "القلق الحقيقي من أن خلاياهم في كل مكان. في الجيش والشرطة والوحدات الاحتياطية".
حكم على قائد "الصليب الشمالي" بالسجن لمدة 21 شهراً فقط
وذكرت الصحيفة أن "الصليب الشمالي" واحدة من المجموعات التي كانت تحضر لـ"اليوم أكس". وكانت الاستخبارات الألمانية الداخلية تلقت معلومة أواخر عام 2016، بدأ التحقيق فيها في صيف 2017، لكن الأمر أخذ سنوات قبل أن يتم تحويل "الصليب الشمالي"، أو مجموعة صغيرة فيها، إلى المحاكمة، كما أن غروس هو الوحيد حالياً الذي يواجه تهمة حيازة أسلحة بشكل غير قانوني، وليس التآمر. وقد أدى الحكم عليه، العام الماضي، بالسجن لمدة 21 شهراً فقط، بالادعاء العام، إلى تمييز الحكم وطلب عقوبة مشددة. ومن أصل نحو 30 عضواً في مجموعة "الصليب الشمالي"، فإنه يتم حالياً التحقيق مع محامٍ ومسؤول في الشرطة فقط، بشبهة التحضير لعمل إرهابي.
ويقول خبراء في التطرف إن النتيجة نموذجية في تعامل السلطات مع قضايا اليمين المتشدد، إذ غالباً ما تكون التهم غير متوافقة مع عملية ردع المؤامرات، وتركيزها يكون على الأفراد، وليس على الشبكات نفسها. لكن هذا الأمر يقود إلى نقطة أخرى تجعل السلطات الألمانية قلقة، إذ إن عملية الاختراق طاولت الشرطة، التي من المفترض أنها تقود التحقيق بملف المتشددين. ففي يوليو الماضي، قدم قائد شرطة ولاية هيسن، أودو مونش، استقالته من منصبه، على خلفية "الشكوك الجدية" حول تورط ضباط شرطة يناصرون اليمين المتطرف في التهديدات التي طاولت شخصيات معروفة وسياسيين، واحتمال وجود شبكة يمينية متطرفة داخل القوة الإقليمية التابعة لقيادته.
وأشارت تقارير إعلامية وقتها، بينها ما بينته شبكة "أيه أر دي" الإخبارية أن تقديم مونش استقالته وطلبه التقاعد المبكر جاء بعدما تبين أن حواسيب أجهزة الشرطة في الولاية استخدمت في عمليات بحث غير مصرح بها للحصول على تفاصيل شخصيات بارزة، بينها لرئيسة كتلة حزب اليسار في برلمان ولاية هيسن، جانين فيسلر، وتلقيها تهديدات بالقتل عبر رسائل البريد الإلكتروني، تم توقيعها بأحرف "أن أس يو"، في إشارة إلى خلية النازيين الجدد، المتهمة بارتكاب جرائم قتل عنصرية ضد أشخاص من ذوي أصول مهاجرة، وجريمة النازيين الجدد في مدينة هاناو التي راح ضحيتها 9 أشخاص خلال فبراير/شباط الماضي. وأشارت الصحيفة إلى أن بعض أعضاء مجموعة "الصليب الشمالي" كانوا جادين، حتى أنهم وضعوا لائحة بالسياسيين الأعداء. وقال السياسي في ولاية ميكلينبرغ فيست بومرانيا بشمال شرق ألمانيا هايكو بوهرينغر إنه تلقى تهديدات من المجموعة التي تأسست في الولاية.