كثيرة هي الأسئلة التي لا يخطر على بالنا أن نطرحها ظنًّاً منّا أنّ الإجابة عنها معلومة يسيرة أو بديهيّة محسومة، ومن بينها السؤال التالي الذي قد يبدو لبعضهم غريباً غير مألوف:
ما هو القطاع الأكثر مردوديّة في الاقتصاد الفرنسيّ، قطاع صناعة السيّارات أم قطاع الصناعات الثقافيّة؟
سؤال واضح مباشر، ولكنّه، أيضاً، مستفزّ محيّر؛ خصوصاً لمن تعوّد اعتبارَ الثقافة "حرفة شؤم" أو"باباً من أبواب الفقر". ولعلّ أعجب ما فيه أنّ الحالة الفرنسيّة تقدّم لنا إجابة مفاجئة جديرة بالنظر والتأمّل والاعتبار.
فخر الصناعة الفرنسيّة المجهول
تحت وقع اللّقطات الإشهاريّة التي تغذّي مخيال الأفراد والجماعات، تأسرنا السيّارات بأناقة تصاميمها وبريق ألوانها وتعاقب موديلاتها. ولذلك يسارع أغلبنا إلى ترجيح كفّتها وإلى اعتبارها "فخر الصناعة". ولكن، بعيداً عمّا يتراءى للجميع عبر شاشة التلفزيون، توجد حقائق دامغة تطالعنا بها الأرقام والإحصائيّات، مفادها أنّ الناتج الداخليّ الخام في فرنسا يجني من قطاع الصناعات الثقافيّة (وعلى رأسها قطاع النشر والطباعة) سبعة أضعاف ما يجنيه من قطاع صناعة السيّارات.
ببساطة شديدة، يمكننا القول، إنّ كتاباً فرنسيّاً واحداً يعادل من حيث القيمة سبع سيّارات!
وقد يفسر هذا سبب ولع الفرنسيّين بالجوائز الأدبيّة، بل هوسهم بإسنادها. فعلى امتداد فضاء الفرنكوفونيّة الذي ما فتئ يتوسّع ليغطّي قارّات أوروبّا وأفريقيا وأميركا وآسيا، نشأ وتطوّر تقليد الاحتفاء بالمنشورات الجديدة والحرص على تكريم أصحابها. وهو تقليد عريق يعود إلى أواخر القرن الثامن عشر (1782) عندما أَوْكَـلَ عالمُ الاقتصاد ذو النزعة الإنسانويّة "دي مونتيون" (1733- 1820) إلى الدوائر الأكاديميّة المشهود لها، آنذاك، أن تسند ثلاث جوائز تحمل اسمه: جائزة للفضيلة بما هي قيمة أخلاقيّة سامية، وجائزة للأدب الفاضل بما هو تعبير راق عن الجمال، وجائرة للعلوم بما هي تجسيد عمليّ للعقل النفعي النافع.
ومنذ ذلك التاريخ البعيد الذي لا يكاد يتذكّره، الآن، أحد، أصيب عالَم الفرنكوفونيّة بـ"حمّى الجوائز" إلى أن قارب عددها اليوم ألفاً وخمسمائة جائزة (بمعدّل 4 جوائز كلّ 24 ساعة).
ولكن، على الرغم من كثرة المكافآت وتنوّع عناوينها ومضامينها وأغراضها واتّساع جغرافيا انتشارها، فإنّ العاصمة باريس، مركز الفرنكوفونيّة النابض وقطبها الجاذب، لا تحبس أنفاسها إلاّ على امتداد شهرَيْ أكتوبر/تشرين الأوّل، ونوفمبر/تشرين الثاني. ففي هذه الفترة بالذات يقع التصريح تِـباعاً بأسماء المتوّجين في خمس جوائز ما فتئت تستقطب الاهتمام.. خمس جوائز تمثّل "الدرب الملكيّ" الذي يتمنّى كلّ أديب ناطق بالفرنسية أو كاتب بها أن يعبره ويسير فيه.
غونكور... سفن الأماني ورياح الزمن!
بعد سبع سنوات من تأسيس "منتيون" جائزته، أطاحت الثورة الفرنسيّة بالمَلكيّة 1789 دون أن ينجح النظام الجمهوريّ في الترسّخ والاستقرار. وفي خضمّ واقع طال اضطرابه دارت عجلة الزمان بسرعة جنونيّة فطوّحت بالقيم السائدة وعصفت بالحساسيّات الفنيّة والأدبيّة، إلى درجة أنّ ما كان يَـعُـدُّهُ بعضهم من صميم الفضيلة أضحى في نظر آخرين ضرباً من الرذيلة!
وفي ردّ فعل على جائزة "مونتيون" وعلى الأكاديمييّن المحافظين المشرفين عليها، خامرت الأديبَيْن الأخوَيْن "جيل دي غونكور" (1830-1870) و"إدموند دي غونكور" (1822-1896) فكرة إنشاء جائزة أكثر انعتاقاً من قيود التقليد.
وفق نواميس الخِلقة والطبيعة، لم يكن الأخوان "غونكور" توأمَيْن ولكنّهما كانا كذلك في مجال الأدب. فمنذ بروزهما على الساحة الإبداعيّة الفرنسيّة سنة 1851، نشرا جلّ نصوصهما بتوقيع مشترك واحتضنا في مخيّلتهما حلماً عزيزاً على كليهما، حلم بعث جائزة أدبيّة أرادا لها أن تكون أكثر تعبيراً عن المرحلة التاريخيّة التي وُجدا فيها وعن التحوّلات العميقة التي تعتمل في صلبها، مرحلة المرور من الملكية إلى الجمهورية. وذلك ما شرعا في التخطيط له منذ سنة 1862 إلى أن خطف الموتُ الأخَ الأصغرَ "جيل" على حين غرّة 1870، فوجد أكبرهما نفسه مضطرّاً إلى مسابقة الزمن لا لمجرّد مسايرة نسقه المتسارع، بل من أجل تخليد ذكرى الأخ الفقيد قبل أن يلتحق به يوماً ما.
وفي سنة 1874، كتب "أدموند غونكور" وصيّة تقضي بتأسيس أكاديميّة خاصّة تتركّب من عشرة أعضاء مهمّتها إسناد جائزة قدرها خمسة آلاف فرنك ذهبيّ فرنسيّ لأفضل عمل تخيليّ نثريّ يصدر في بحر السنة.
ومع ذلك، فإنّ رياح التاريخ جرت بما لا تشتهيه سفن "غونكور". فبسبب التضخّم الماليّ وتغيير فرنسا المتتالي لمعايير عملتها الوطنيّة فقدت الجائزة قيمتها الماديّة إلى درجة أن المشرفين عليها قرّروا الاكتفاء بمنح الفائز بها صكّاً رمزيّاً لا تتجاوز قيمته 10 يوروات، صكّ لا يكفي لسداد عشاء شخصَيْن في مطعم من مطاعم باريس!
غونكور.. جائزة تلد أخرى!
لم تستطع خمسة آلاف فرنك ذهبيّ أن تصمد أمام اهتراء قيمة العملة. ولكنّ الفائزين بجائزة "غونكور" وجدوا في رواج كتبهم وفي بلوغ سَحْبِها ما يناهز 400 ألف نسخة ما يتجاوزون به الفقر، بل ما يتجاوزون به الغنى إلى ما هو خير وأبقى!
ومع ذلك، فقد كان على جائزة "غونكور" أن تواجه طيلة قرن من تاريخها صعوبات أخرى أشدّ من تلك التي عصفت بقيمتها الماديّة. فبعد عام واحد من شروع القائمين عليها في إسنادها إلى مستحقّيها، وتحديداً سنة 1904، وجدت الجائزة نفسها في مرمى تُهمة غير متوقّعة. فقد تعالت ضدّها أصوات ثلّة من الشخصيّات والجمعيّات والمجلاّت النسويّة التي اعتبرتها جائزةً تكرّس الأدب الذكوريّ في مجتمع كانت أصوات النسوة فيه تتعالى لإثبات الكينونة وتأكيد الجدارة.
وتأسيساً على هذه الشبهة، بُعثت في العام نفسه جائزة "فيمينا" التي اقتصرت عضويّة لجانها على النساء على الرغم من أنّها انفتحت على الشعر والرواية مَعاً وكرّمت أكثر من رجل في أكثر من مرّة.
وعلى مثل هذا النهج الذي تتداخل فيه مشاعر الغيرة من "غونكور" وأحاسيس الإعجاب بها، ظهرت جوائز عدة لا تخلو من الغرابة والمفاجأة والجنون. ففي عام 1926، وبعد ساعات طويلة ظلّ فيها محرّرو الصفحات الأدبيّة الباريسيّة ينتظرون بفارغ الصبر ظهور نتائج "غونكور"، عبثت بأذهانهم فكرة تأسيس جائزة تحمل اسم إمام الصحافة الفرنسيّة، "تيوفراست رونودو" (1586-1653)، تُمنح في مجال نفسه "غونكور"، أي في فن الرواية، وبالتزامن مع موعد إعلانها، نكاية فيها لأنّها لم تحترم هذا الموعد وتركت الصحافيين ينتظرون على الباب!
أمّا سنة 1958، وفي ردّة فعل -مرّة أخرى- على جائزة "غونكور" التي رأى بعضهم أنّها تتعمّد إهمال الأصوات الجديدة وتكتفي بتكريس المُكرّس، ظهرت جائزة "ميديسيس" كشكل من أشكال معارضة النزعات المحافظة من أجل الانتصار للشباب وللمستقبل.
وتتويجاً لهذا المسار الطويل الذي ظلّت فيه "غونكور" قطب جذب ومحور نقد ظهرت سنة 1989 الجائزة المعروفة اليوم باسم جائزة "ديسمبر/كانون الأوّل" (جائزة "نوفمبر/تشرين الثاني"، سابقاً) وهي جائزة تقدّم نفسها بكلّ وضوح وصراحة على أساس كونها "غونكور المضادّة"، لأنّها (بحسب قولها، وعلى عكس أمّها أو ربيبتها) مستقلّة، حرّة في قرارها، ترفض الخضوع لتأثيرات دور النشر وللوبيّات الأدب، وما أكثرها!
جوائز لا تنتهي
لبلوغ هدف إثقال موازين الكتاب وإكسابه مزيداً من الصلابة التي تتيح له التموقع في الاقتصاد الوطني وتمكّنه من دعم القدرة على المنافسة تحقيقاً لأقصى إمكانيات المردودية عبر اقتحام أسواق الفرنكوفونية محلياً وعالمياً، لجأ القائمون على الصناعات الثقافية في فرنسا إلى توليد الجوائز وتكثيفها وتوسعة مجال تخصّصها.
فعن جائزة "غونكور" التي كانت تُسند -حصريّاً وفي الأصل- إلى الأعمال الروائية الصادرة في سنة التتويج نفسها انبثقت سنة 1974 "غونكور" الخاصة بالقصة القصيرة، ثمّ سنة 1980 "غونكور" الخاصة بكتب السيرة، وسنة 1985 "غونكور" الخاصة بالشعر، وسنة 1988 "غونكور" التي تحتضن إبداعات شباب المعاهد، وسنة 1990 "غونكور" التي تحتفي بمن يُصدرون أوّل رواية في مسيرتهم الأدبيّة.
وفي سياق الحرص نفسه على بقاء "غونكور" وامتدادها لتشمل الجغرافيا الأوروبية ظهرت سنة 1998 "غونكور" جديدة، في نسخة بولونية هذه المرّة ضمّت في عضوية لجانها الموسعة طلبة سائر أقسام اللغة الفرنسية المنتسبين إلى الجامعات البولونية. وعلى النهج والأسلوب نفسه انبثقت سنة 2012 "غونكور" الصربية التي أراد باعثوها أن تكون الأقليات الإثنية واللغوية في أوروبا ذات صوت مسموع، بل مـرجّـح.
أمّا جائزة "رونودو" هذه التي أسّسها سنة 1926 محرّرو الصفحات الثقافية الفرنسية نكاية في "غونكور" وعقاباً لها على تأخّرها في التصريح بالنتائج، فإنها لم تتأخّر هي، أيضاً، عن فتح آفاقها وعن توسعة مجال اهتمامها، فبعدما كانت مقتصرة على الرواية دون سواها فتحت ذراعيْها سنة 1992 لاحتضان شباب المعاهد المبدعين، ثم عدّلت سنة 2003 بوصلتها فلم تَـكْـتَـفِ بتتويج الأعمال الروائية التخييلية، بل ضمت إليها الأعمال ذات الطابع التحليلي النقديّ، قبل أن تعمد سنة 2009 إلى توسيع أفقها أكثر فأكثر بإسنادها جائزة مخصّصة لكتاب الجيب، هذا الذي يعدّ ـ في منظور الناشرين وفي بورصة القراء - المحرار الحقيقي الذي يقاس به مدى رواج أيّ عمل بصرف النظر عن جنسه سواء كان كتاب تخييل أوتحليل، عمل نثر أو شعر، رواية أو مجموعة أقاصيص.
وبصرف النظر عن صراع الأجناس والأنواع، وعن حمّى الجوائز التي تنبت كالفقاع، وعن الحروب الصامتة/الصاخبة التي تنشئ أي صراع، فالثابت لدينا أن تكريم الكتاب وتكريس أسماء المبدعين على اختلاف مجالات تخصّصهم ليس إلا جزءاً يسيراً ظاهراً للعيان من حراك معقّد مركّب متشابك العناصر والمؤثّرات تتدخل في صياغة مضامينه وفي توجيه آفاقه ومساراته ومآلاته أطراف قد لا ترى في الكتاب إلاّ سلعة أو علبة أو لعبة. ومع ذلك، فها نحن تحت رذاذ باريس الرماديّة، بين خريفها والشتاء، في حضرة أشجارها التي تنفض عنها الأوراق الصفراء في انتظار الإعلان عن أسماء جديدة لجوائز صارت قديمة... أسماء يمكن لكتاب واحد منها أن يرجح كفة سبع سيارات!
(كاتب تونسي)
ما هو القطاع الأكثر مردوديّة في الاقتصاد الفرنسيّ، قطاع صناعة السيّارات أم قطاع الصناعات الثقافيّة؟
سؤال واضح مباشر، ولكنّه، أيضاً، مستفزّ محيّر؛ خصوصاً لمن تعوّد اعتبارَ الثقافة "حرفة شؤم" أو"باباً من أبواب الفقر". ولعلّ أعجب ما فيه أنّ الحالة الفرنسيّة تقدّم لنا إجابة مفاجئة جديرة بالنظر والتأمّل والاعتبار.
فخر الصناعة الفرنسيّة المجهول
تحت وقع اللّقطات الإشهاريّة التي تغذّي مخيال الأفراد والجماعات، تأسرنا السيّارات بأناقة تصاميمها وبريق ألوانها وتعاقب موديلاتها. ولذلك يسارع أغلبنا إلى ترجيح كفّتها وإلى اعتبارها "فخر الصناعة". ولكن، بعيداً عمّا يتراءى للجميع عبر شاشة التلفزيون، توجد حقائق دامغة تطالعنا بها الأرقام والإحصائيّات، مفادها أنّ الناتج الداخليّ الخام في فرنسا يجني من قطاع الصناعات الثقافيّة (وعلى رأسها قطاع النشر والطباعة) سبعة أضعاف ما يجنيه من قطاع صناعة السيّارات.
ببساطة شديدة، يمكننا القول، إنّ كتاباً فرنسيّاً واحداً يعادل من حيث القيمة سبع سيّارات!
وقد يفسر هذا سبب ولع الفرنسيّين بالجوائز الأدبيّة، بل هوسهم بإسنادها. فعلى امتداد فضاء الفرنكوفونيّة الذي ما فتئ يتوسّع ليغطّي قارّات أوروبّا وأفريقيا وأميركا وآسيا، نشأ وتطوّر تقليد الاحتفاء بالمنشورات الجديدة والحرص على تكريم أصحابها. وهو تقليد عريق يعود إلى أواخر القرن الثامن عشر (1782) عندما أَوْكَـلَ عالمُ الاقتصاد ذو النزعة الإنسانويّة "دي مونتيون" (1733- 1820) إلى الدوائر الأكاديميّة المشهود لها، آنذاك، أن تسند ثلاث جوائز تحمل اسمه: جائزة للفضيلة بما هي قيمة أخلاقيّة سامية، وجائزة للأدب الفاضل بما هو تعبير راق عن الجمال، وجائرة للعلوم بما هي تجسيد عمليّ للعقل النفعي النافع.
ومنذ ذلك التاريخ البعيد الذي لا يكاد يتذكّره، الآن، أحد، أصيب عالَم الفرنكوفونيّة بـ"حمّى الجوائز" إلى أن قارب عددها اليوم ألفاً وخمسمائة جائزة (بمعدّل 4 جوائز كلّ 24 ساعة).
ولكن، على الرغم من كثرة المكافآت وتنوّع عناوينها ومضامينها وأغراضها واتّساع جغرافيا انتشارها، فإنّ العاصمة باريس، مركز الفرنكوفونيّة النابض وقطبها الجاذب، لا تحبس أنفاسها إلاّ على امتداد شهرَيْ أكتوبر/تشرين الأوّل، ونوفمبر/تشرين الثاني. ففي هذه الفترة بالذات يقع التصريح تِـباعاً بأسماء المتوّجين في خمس جوائز ما فتئت تستقطب الاهتمام.. خمس جوائز تمثّل "الدرب الملكيّ" الذي يتمنّى كلّ أديب ناطق بالفرنسية أو كاتب بها أن يعبره ويسير فيه.
غونكور... سفن الأماني ورياح الزمن!
بعد سبع سنوات من تأسيس "منتيون" جائزته، أطاحت الثورة الفرنسيّة بالمَلكيّة 1789 دون أن ينجح النظام الجمهوريّ في الترسّخ والاستقرار. وفي خضمّ واقع طال اضطرابه دارت عجلة الزمان بسرعة جنونيّة فطوّحت بالقيم السائدة وعصفت بالحساسيّات الفنيّة والأدبيّة، إلى درجة أنّ ما كان يَـعُـدُّهُ بعضهم من صميم الفضيلة أضحى في نظر آخرين ضرباً من الرذيلة!
وفي ردّ فعل على جائزة "مونتيون" وعلى الأكاديمييّن المحافظين المشرفين عليها، خامرت الأديبَيْن الأخوَيْن "جيل دي غونكور" (1830-1870) و"إدموند دي غونكور" (1822-1896) فكرة إنشاء جائزة أكثر انعتاقاً من قيود التقليد.
وفق نواميس الخِلقة والطبيعة، لم يكن الأخوان "غونكور" توأمَيْن ولكنّهما كانا كذلك في مجال الأدب. فمنذ بروزهما على الساحة الإبداعيّة الفرنسيّة سنة 1851، نشرا جلّ نصوصهما بتوقيع مشترك واحتضنا في مخيّلتهما حلماً عزيزاً على كليهما، حلم بعث جائزة أدبيّة أرادا لها أن تكون أكثر تعبيراً عن المرحلة التاريخيّة التي وُجدا فيها وعن التحوّلات العميقة التي تعتمل في صلبها، مرحلة المرور من الملكية إلى الجمهورية. وذلك ما شرعا في التخطيط له منذ سنة 1862 إلى أن خطف الموتُ الأخَ الأصغرَ "جيل" على حين غرّة 1870، فوجد أكبرهما نفسه مضطرّاً إلى مسابقة الزمن لا لمجرّد مسايرة نسقه المتسارع، بل من أجل تخليد ذكرى الأخ الفقيد قبل أن يلتحق به يوماً ما.
وفي سنة 1874، كتب "أدموند غونكور" وصيّة تقضي بتأسيس أكاديميّة خاصّة تتركّب من عشرة أعضاء مهمّتها إسناد جائزة قدرها خمسة آلاف فرنك ذهبيّ فرنسيّ لأفضل عمل تخيليّ نثريّ يصدر في بحر السنة.
ومع ذلك، فإنّ رياح التاريخ جرت بما لا تشتهيه سفن "غونكور". فبسبب التضخّم الماليّ وتغيير فرنسا المتتالي لمعايير عملتها الوطنيّة فقدت الجائزة قيمتها الماديّة إلى درجة أن المشرفين عليها قرّروا الاكتفاء بمنح الفائز بها صكّاً رمزيّاً لا تتجاوز قيمته 10 يوروات، صكّ لا يكفي لسداد عشاء شخصَيْن في مطعم من مطاعم باريس!
غونكور.. جائزة تلد أخرى!
لم تستطع خمسة آلاف فرنك ذهبيّ أن تصمد أمام اهتراء قيمة العملة. ولكنّ الفائزين بجائزة "غونكور" وجدوا في رواج كتبهم وفي بلوغ سَحْبِها ما يناهز 400 ألف نسخة ما يتجاوزون به الفقر، بل ما يتجاوزون به الغنى إلى ما هو خير وأبقى!
ومع ذلك، فقد كان على جائزة "غونكور" أن تواجه طيلة قرن من تاريخها صعوبات أخرى أشدّ من تلك التي عصفت بقيمتها الماديّة. فبعد عام واحد من شروع القائمين عليها في إسنادها إلى مستحقّيها، وتحديداً سنة 1904، وجدت الجائزة نفسها في مرمى تُهمة غير متوقّعة. فقد تعالت ضدّها أصوات ثلّة من الشخصيّات والجمعيّات والمجلاّت النسويّة التي اعتبرتها جائزةً تكرّس الأدب الذكوريّ في مجتمع كانت أصوات النسوة فيه تتعالى لإثبات الكينونة وتأكيد الجدارة.
وتأسيساً على هذه الشبهة، بُعثت في العام نفسه جائزة "فيمينا" التي اقتصرت عضويّة لجانها على النساء على الرغم من أنّها انفتحت على الشعر والرواية مَعاً وكرّمت أكثر من رجل في أكثر من مرّة.
وعلى مثل هذا النهج الذي تتداخل فيه مشاعر الغيرة من "غونكور" وأحاسيس الإعجاب بها، ظهرت جوائز عدة لا تخلو من الغرابة والمفاجأة والجنون. ففي عام 1926، وبعد ساعات طويلة ظلّ فيها محرّرو الصفحات الأدبيّة الباريسيّة ينتظرون بفارغ الصبر ظهور نتائج "غونكور"، عبثت بأذهانهم فكرة تأسيس جائزة تحمل اسم إمام الصحافة الفرنسيّة، "تيوفراست رونودو" (1586-1653)، تُمنح في مجال نفسه "غونكور"، أي في فن الرواية، وبالتزامن مع موعد إعلانها، نكاية فيها لأنّها لم تحترم هذا الموعد وتركت الصحافيين ينتظرون على الباب!
أمّا سنة 1958، وفي ردّة فعل -مرّة أخرى- على جائزة "غونكور" التي رأى بعضهم أنّها تتعمّد إهمال الأصوات الجديدة وتكتفي بتكريس المُكرّس، ظهرت جائزة "ميديسيس" كشكل من أشكال معارضة النزعات المحافظة من أجل الانتصار للشباب وللمستقبل.
وتتويجاً لهذا المسار الطويل الذي ظلّت فيه "غونكور" قطب جذب ومحور نقد ظهرت سنة 1989 الجائزة المعروفة اليوم باسم جائزة "ديسمبر/كانون الأوّل" (جائزة "نوفمبر/تشرين الثاني"، سابقاً) وهي جائزة تقدّم نفسها بكلّ وضوح وصراحة على أساس كونها "غونكور المضادّة"، لأنّها (بحسب قولها، وعلى عكس أمّها أو ربيبتها) مستقلّة، حرّة في قرارها، ترفض الخضوع لتأثيرات دور النشر وللوبيّات الأدب، وما أكثرها!
جوائز لا تنتهي
لبلوغ هدف إثقال موازين الكتاب وإكسابه مزيداً من الصلابة التي تتيح له التموقع في الاقتصاد الوطني وتمكّنه من دعم القدرة على المنافسة تحقيقاً لأقصى إمكانيات المردودية عبر اقتحام أسواق الفرنكوفونية محلياً وعالمياً، لجأ القائمون على الصناعات الثقافية في فرنسا إلى توليد الجوائز وتكثيفها وتوسعة مجال تخصّصها.
فعن جائزة "غونكور" التي كانت تُسند -حصريّاً وفي الأصل- إلى الأعمال الروائية الصادرة في سنة التتويج نفسها انبثقت سنة 1974 "غونكور" الخاصة بالقصة القصيرة، ثمّ سنة 1980 "غونكور" الخاصة بكتب السيرة، وسنة 1985 "غونكور" الخاصة بالشعر، وسنة 1988 "غونكور" التي تحتضن إبداعات شباب المعاهد، وسنة 1990 "غونكور" التي تحتفي بمن يُصدرون أوّل رواية في مسيرتهم الأدبيّة.
وفي سياق الحرص نفسه على بقاء "غونكور" وامتدادها لتشمل الجغرافيا الأوروبية ظهرت سنة 1998 "غونكور" جديدة، في نسخة بولونية هذه المرّة ضمّت في عضوية لجانها الموسعة طلبة سائر أقسام اللغة الفرنسية المنتسبين إلى الجامعات البولونية. وعلى النهج والأسلوب نفسه انبثقت سنة 2012 "غونكور" الصربية التي أراد باعثوها أن تكون الأقليات الإثنية واللغوية في أوروبا ذات صوت مسموع، بل مـرجّـح.
أمّا جائزة "رونودو" هذه التي أسّسها سنة 1926 محرّرو الصفحات الثقافية الفرنسية نكاية في "غونكور" وعقاباً لها على تأخّرها في التصريح بالنتائج، فإنها لم تتأخّر هي، أيضاً، عن فتح آفاقها وعن توسعة مجال اهتمامها، فبعدما كانت مقتصرة على الرواية دون سواها فتحت ذراعيْها سنة 1992 لاحتضان شباب المعاهد المبدعين، ثم عدّلت سنة 2003 بوصلتها فلم تَـكْـتَـفِ بتتويج الأعمال الروائية التخييلية، بل ضمت إليها الأعمال ذات الطابع التحليلي النقديّ، قبل أن تعمد سنة 2009 إلى توسيع أفقها أكثر فأكثر بإسنادها جائزة مخصّصة لكتاب الجيب، هذا الذي يعدّ ـ في منظور الناشرين وفي بورصة القراء - المحرار الحقيقي الذي يقاس به مدى رواج أيّ عمل بصرف النظر عن جنسه سواء كان كتاب تخييل أوتحليل، عمل نثر أو شعر، رواية أو مجموعة أقاصيص.
وبصرف النظر عن صراع الأجناس والأنواع، وعن حمّى الجوائز التي تنبت كالفقاع، وعن الحروب الصامتة/الصاخبة التي تنشئ أي صراع، فالثابت لدينا أن تكريم الكتاب وتكريس أسماء المبدعين على اختلاف مجالات تخصّصهم ليس إلا جزءاً يسيراً ظاهراً للعيان من حراك معقّد مركّب متشابك العناصر والمؤثّرات تتدخل في صياغة مضامينه وفي توجيه آفاقه ومساراته ومآلاته أطراف قد لا ترى في الكتاب إلاّ سلعة أو علبة أو لعبة. ومع ذلك، فها نحن تحت رذاذ باريس الرماديّة، بين خريفها والشتاء، في حضرة أشجارها التي تنفض عنها الأوراق الصفراء في انتظار الإعلان عن أسماء جديدة لجوائز صارت قديمة... أسماء يمكن لكتاب واحد منها أن يرجح كفة سبع سيارات!
(كاتب تونسي)