الجن في موريتانيا يحرّك الاقتصاد

20 أكتوبر 2014
خيمة في شارع "اكلينيك" تنتج ثروة (العربي الجديد)
+ الخط -
خيم رثة متراصفة في شارع "اكلينيك" وسط العاصمة الموريتانية. داخل الخيم شباب وكبار في ‏السن، عيونهم شاخصة في المارة، وملابسهم لا تشير إلى فقر شديد ولا إلى ثراء. تقترب منهم ‏فتسمع تمتمات وأدعية، وفي أيديهم مسبحات كبيرة ولافتة للنظر. على الحيطان التي تسند الخيم رسومات ‏غريبة، وداخل الخيم آيات قرآنية وأدعية ومجموعة عقاقير وأعشاب. شاب يجلس على طرف سجادة ‏متوسطة الحجم، وصاحب الخيمة على طرفها الآخر، والصمت يستمر قبل انطلاق الحديث.‏
هنا، في "اكلينيك" المشعوذون لا يشبهون الأفلام، لا شعرهم فوضويا ولا شديد الأناقة. لا يرتدون سترات ‏طويلة ولا ألوانا مزركشة. شكلهم عادي، ولكن طبيعة "مهنتهم" ليست عادية بالمرة.‏
ممارسة العرافة يطلق عليها الموريتانيون عبارة "لَحْجَابْ"، وهي مهنة تشغّل آلاف الموريتانيين وتجذب ‏آلاف الزبائن. عرض وطلب، بيع كلام، وشراء لأمل أو سعي خلف معجزة. نظرياَ، هي سوق كما كل ‏الأسواق التجارية، ولكن الفارق أنه في هذه السوق الغريبة، كل التجار "يحاورون" الجن، وكل التجار ‏ملاحَقون من الأجهزة الأمنية، وكل التجار الذين يعودون إلى أماكنهم برغم الملاحقات يدفعون الرشاوى، ‏ويستغلون علاقتهم (الواسعة نسبياً) مع أطراف من السلطة وعدد لا يستهان به من الأثرياء، لكي يحافظوا ‏على "مصدر الرزق". ‏
بعد مفاوضات شاقة، يتغلب الشيخ محفوظ (68 عاماً) على نفوره من الأحاديث الإعلامية. هو عميد ‏المشعوذين في سوق "اكلينيك"، وهو لا يثق فى الصحافيين الذين يصفونه بـ"الساحر"، على حد تعبيره. ‏يشرح محفوظ قصته مع "لحجاب"، فقد ورث هذا العمل عن والده. لكن قبل أن يصبح شيخ العرافين، ‏عاش محفوظ 30 عاما في الغربة، عاد إلى وطنه لينضم إلى جيش من العاطلين عن العمل، عندها قرر ‏العمل في المهنة الموروثة.
لكن هذه السوق العشوائية، تصنع الثروات فعلاً. ففي بلد لا يتعدى فيه الحد الأدنى للأجور 111 دولاراً، يبيع ‏المشعوذ أحرازه (عقاقير وأحجبة وغيره) بمبالغ تصل إلى 150 دولاراً لكل حرز. ويستقبل هؤلاء عشرات الزبائن يومياً، ليصل العدد ‏في غالبية الأحيان إلى 20 زبوناً. لكن الشيخ محفوظ يقول بتواضع، إنه يحصل يومياً على ربح يصل إلى ما ‏بين 120 و300 دولار، ليصل مدخوله إلى 9 آلاف دولار شهرياً. ووفق متوسط الأجور في موريتانيا، ‏يعتبر المشعوذون من الطبقة الوسطى، وبعضهم من الأثرياء.‏
أما الشيخ تابه ولد السالك وهو يمارس "لحجاب" أيضاً، فأسعاره أدنى من شيخ شارع "اكلينيك"، بحيث يشير ‏في حديثه مع "العربي الجديد" إلى أن أكثر رواد خيمته هم من النساء. أما أسعار "لحجاب" لديه فتتفاوت ‏بين 3 و6 دولارات، "بحسب قدرة الزبون".‏
من شارع "اكلينيك" ننتقل إلى محل "الرقية الشرعية" الذي يديره الشيخ محمد يسلم في حي كارفور في ‏نواكشوط. الأخير يحرص على التمييز بين السحر والشعوذة من جهة والرقية من جهة أخرى، ويقول إن ‏مهنته لا تُستخدم فيها الجداول ولا الطلاسم، وإنما ترتكز على قراءة الأدعية القرآنية. أما أرباحه، فهي ‏بحسب يسلم، تأتي من مبالغ مالية يضعها الزبائن في صندوق موجود عند مدخل منزل الشيخ محمد يسلم، ‏المحاذي لمحله. يرفض يسلم الحديث عن حجم هذه المبالغ، ولكنه يقول إنها تكفي لنفقات استمرارية محله. ‏
الباحث الاقتصادي سيدي ولد عبد المالك يرى في حديث مع "العربي الجديد" أن ظاهرة الشعوذة ترفد ‏الاقتصاد الموريتاني بحركة تجارية موازية، ويلفت إلى أن المستفيدين من هذا النوع من النشاط الاقتصادي ‏قسمان: القسم الأول هم مجموعة من المنحدرين من أفريقيا، وغالبية أرباح هؤلاء يتم تحويلها إلي بلدانهم ‏الأصلية. أما القسم الثاني فهم "الحجّابه" الموريتانيون وبعضهم من طبقات اجتماعية متوسطة إلى ثرية، وهذه المجموعة تتقاضى أموالاً باهظة من زبائنها، وتُضخ ‏هذه الاموال في الدورة الاقتصادية الموريتانية. ‏
ولا تقتصر سوق "لحجاب" على العاصمة فقط، إذ تنتشر بكثافة في عدد من قرى الأطراف، وتشغّل ‏الآلاف من الموريتانيين، وكذلك تدخل ضمن دورة اقتصادية موازية، بحيث يستفيد من انتشار هذه الظاهرة ‏سائقو السيارات الذين يوصلون الزبائن إلى العرافين ويحصلون على نسبة من الربح، وعدد كبير من ‏الوسطاء الذين يسوقون للعاملين في هذه السوق عبر النشرات وجلب الزبائن. إضافة إلى تشغيل تجار ‏الأعشاب، وتجار الصاغة؛ حيث إن بعض "الأحراز" التي يصنعها المشعوذون تتطلب مثلاً استخدام ‏الأحجار الكريمة. ‏
المساهمون