الجنوب اليمني والتطلع إلى وطن

10 سبتمبر 2019
+ الخط -
نسأل اليوم في اليمن: ما هو الجنوب الذي تنشدونه؟ سيقولون لك الجنوب، مرددين "الجنوب أولا"، ثم سنتفق وسنختار ما يناسبنا. بحلم طوباوي قضينا عمرنا نبحث عنه، كلما اقتربنا نجده سرابا، وطريقا معبداً بأشواك الفرقة والتمزق والشتات، وصراعات أفقدتنا قيمنا، ونسيج مهترئ ممزق، وهوية مطعونة. أحلام طوباوية لا مجال فيها للاجتهاد والتفكير عن جنوب المستقبل المنشود، ومن اجتهد أو فكر نشز، ومن نشز فلا موطئ قدم له في جنوبهم هذا. 
نحن أمام تطلع رديء لجنوب بقواه المتناحرة وجماعاته المشتتة فكريا، جنوب نكاية في الآخر، جنوب بكل جراحاته وتراكماته، مثخن بالآلام والانتقام والمآسي، بل بعضهم يريد أن ينسحب من ساحة صراع يمني فيها قوى متعددة، إلى ساحة صراع جنوبي تمكنه من تصفية حساباته وثاراته، ممارسا كل انتقاماته. لهذا التطلع قواه المتعددة، فيهم المتشدّدون إلى جدليات الماضي السحيق السلبية، وفيهم المتطلعون إلى جنوب يعطل مشروع التغيير والتحول المنشود لدولة اتحادية تقدم حلولا للجنوب والشمال، وترعى المواطنة والحرية والعدالة، ومنهم المرعوبون من المستقبل، خوفا من فتح ملفاتهم القديمة والجديدة.
ومنهم من الشباب الذي استمع كثيرا لحكايات الزمن الجميل ويتطلع إلى جمال ذلك الزمان، وهو لا يعلم ما أخفي عنه من قبح ذلك الزمان، منجرّين خلف عواطف من دون قراءة عقلانية، وتجارب وعبر الماضي، تغيب عنهم كثير من الحقائق.
وهناك المتطلعون إلى جنوب المستقبل المبني على أفكار ورؤى وثقافات ووعي مستلهم من تجارب وعبر الماضي، وتاريخ نضالي عريق كانوا في خضم أحداثه، جعل الشيب يتسلل إلى رؤوسهم، والوجع يسكنهم، لم يتركوا قضيتهم جنوبا أو شمالا، متجاوزين مصالحهم الصغيرة والضيقة لجنوب أكبر وأعظم منها، قيمهم ومبادئهم راسخة لا مساومة فيها، بمزاج وطني غير قابل للتلوين والتحول وفق المصلحة، تطلع المتجاوز كل المآسي والجراحات والتراكمات، وجدل الماضي السحيق وعلله، وطن التسامح والتصالح بعيدا عن البكاء والصراخ والعويل، وطن العمل والاجتهاد لتستقيم فيه المواطنة والحرية والعدالة، ويتجاوز العنف وعسكرة الحياة المدنية والسلطة.
في هذا الوطن سيجدون جنوبا حرا وشمالا حرا، وبينهما حرية تتسع ليتنفس الجميع فيها، ويعبر عن تطلعات مدروسة وعلمية، وطن ضامن للحقوق والواجبات، قادر على أن يقدم للجنوبيين جنوبهم وللشماليين شمالهم، وبينهم وطن وتاريخ وإرث وروابط حميمة وهوية بانضباط قانوني ودستوري. وليس التطلع حلما طوباويا مدعوما بالمشاعر، هو فكر علمي وثقافة ترسخت بالألم والجراح، هو رفض للماضي البائس وتراكماته وثاراته، تطلع مبني على التغيير، داعم للحرية والاستقلالية، لا يحتاج إلى دعم خارجي لا عسكري ولا لوجستي، قوّته في عدالته وقيمه ومبادئه، إذا تنازل عن جزء منها انتحر وارتهن لأعدائه، ولا خير في أمة مرتهنة لغير وطنها، نهايتها الخذلان والاستسلام.
تعرّضنا لغزو ثقافي وفكري ونضالي قلب الموازين، وظهرت أصوات قادمة من ذلك الزمان ومتحالفة مع ذلك النظام، كانت نائمة في عسل مغرياته، تركت الجنوب من زمان، من أجل وظيفة ومصلحة، بتحريات كانوا أدوات مآسي الجنوب، صحت اليوم على جنوب يرفضها، وتبحث لها عن موطئ قدم فيه، تردد الصوت العالي وتركب موجة اللحظة، تجر الجنوب إلى متاهات تفرغه من عدالة قضيته، لتجعله مجرد وسيلة لغاية وأجندة لا وطنية ولا إنسانية.
اليوم المعركة الحقيقية هي الدولة الضامنة للمواطنة والحريات والعدالة، جنوبا وشمالا، دولة تنقلنا إلى تغيير حقيقي وتحول منشود لوطن يتجاوز كل تراكماته وجراحاته وثاراته، وينتقل إلى مصاف الدول المحترمة، محافظا على سيادته واستقلاله، ضابطا إيقاع الحياة السياسية والعلاقات والتنوع الثقافي والفكري والسياسي، يجمع شمل كل القوى الوطنية بكل مشاربها وأعراقها ومناطقها وطوائفها من دون شيطنة لوطن يستوعب الكل، من دون منغصات تعترض طريق نهضته وتقدمه إلى الأمام.
0947F93D-78B9-48CD-AD98-B7B1A7035584
0947F93D-78B9-48CD-AD98-B7B1A7035584
أحمد ناصر حميدان (اليمن)
أحمد ناصر حميدان (اليمن)