الجزائر ونصف الكأس الفارغة

17 مارس 2019
+ الخط -
لا يمكن الحديث عن تظاهرات الأسابيع الثلاثة الماضية، في الجزائر، من دون أخذ الوقت الكافي لإلقاء الضّوء على بعض ما حدث فيها، وكيف يمكن البناء عليها، إيجابية كانت أم سلبية، كأي حراكٍ عفوي وواسع، لتسطير الاستمرارية بوتيرةٍ تنتهي عند تحقيق المبتغى: إقامة الجمهورية الثانية في البلاد. ها قد أعلنها الرئيس، وسحب ترشيحه، محقّقا الجزء الأوّل من الأُمنية التي شكّلت سقف المطالبات الأولى لجموع المتظاهرين. ويُنتظر، في الأيّام والأشهر المُقبلة، تحقيق باقي الأمنيات، المتمثلة، أساسا، في تغيير النظام، وبناء عقد مجتمعي جديد، يضمن للكلّ الكرامة والحقوق، في إطار من المساواة، وفي ظل دولة القانون.
يمكن قراءة هذا الزخم من الحراك من خلال المطالب التي رفعها، والتي تشبه، في مضمونها، رسائل الإنترنت، إلى درجة أن بعضهم تحدّث عن ظاهرة تظاهرات شبابٍ، خرجوا من الفضاء الافتراضي، لاستعادة الفضاء العمومي، وهو ما لا يمكن للنظام فهمه، كونه يصدّر، إلى الواجهة، أشخاصا على النقيض مع هذه الظاهرة الرقمية والسريعة، سرعة الإنترنت ومالكيها، الجيل الرّقمي، الذين يشكلون قرابة 53% من سكان الجزائر، مع نسبة كبيرة منهم في التعليم العالي، أي مثقفون أو أصحاب وعي، كثيرا ما تحدثنا عن استقالتهم من الفضاء العام، وعزوفهم عن الفعل السياسي.
في مواجهة هذا الجيل، ما زال النظام يتعنت في صمته، فيواصل الحديث، من خلال رسائل طويلة، وبأوامر تبرز عدة ملاحظات، أو وقفات، لعل أكبرها، على الإطلاق، القطيعة التي 
أصبحت واضحةً بين جيل هرم لا يريد الرّحيل، ويصمم على البقاء، وجيل يتوق إلى الميلاد والحياة، وهي حالة ليست فريدة، بل نشهدها، منذ حوالي عقدين، أو لنقل ثلاثة، لأننا احتفلنا منذ أيام بمرور ثلاثين سنة على ميلاد ظاهرة الشبكة العنكبوتية، وتوشك على ترك بصماتها على الحضارة الإنسانية برمّتها، كونها ظاهرةً عالميةً بامتياز.
أما الوقفة الثانية فلها صلة بقراءة في رسالتين، نُسبتا إلى الرئيس، تقولان الشيء نفسه، في إجابةٍ على مطالب مختلفة، وكأن هناك توقفا كاملا في مواجهة حركة متواصلة وبوتيرة سريعة. لماذا الشيء نفسه، وفي أقلّ من عشرة أيام؟ ما زال النظام يعيش في قوقعته العاجية، ما يزيد من بُعده عن سماع "آهات" الجموع من المتظاهرين. ولهذا نسي مضمون خطابه الأوّل، وردده بالوعود نفسها مع تغيير بسيط في ترتيب الكلمات، وهو ما تمّ التقاطه في الوقت الذي تمت تلاوته على مسامع الجزائريين، ويتغير الشعار المحوري "لا للعهدة الخامسة" إلى شعار آخر، معبر، وهو "لا للعهدة 4.75"، أي التمديد للعهدة الحالية بدون انتخابات.
الوقفة الثّالثة، والتّي على الجميع الوعي بأبعادها الخطيرة، فهي قرار العمل، من النظام، لإقرار الواقع السياسي الجديد، خارج الدستور مع إعمال مادّة واحدة، تستدعي الإشارة إلى "الحالة الاستثنائية"، مع ما تحملها من تفسيراتٍ، يمكنها أن تذهب بعيدا في استخدام كلّ الأدوات السياسية المتاحة، وتصور كل المخارج للأزمة السياسية التي تجري فصولُها في الجزائر منذ أسابيع.
تتحمّل عبارة "الحالة استثنائية" في المادة 107 من الدستور الجزائري، والتي قيل إنها المرجع في القرارات المتخذة من الرئاسة الجزائرية، عدة معانٍ، منها أن مجرّد الحديث عن "تغيير النظام"، في بلدٍ وضع عنوانا للحالة السياسية، هي "الاستمرارية" بالشكل والمضمون اللذيْن تم إقرارهما منذ الاستقلال، هو حالة استثنائية، تستدعي إجراءاتٍ استثنائيةً، قد تصل إلى حدّ الخروج عن الدستور نصا وروحا.
المعنى الآخر الذي تتضمنه عبارة "الحالة استثنائية"، إذا وضعنا أنفسنا في أوساط ذلك الشباب الذي يشكّل خزّان الحراك والتّظاهرات، هو إشكالية تمرير المشعل لجيل رافضٍ الجيلين 
السابقين، جيل الثورة والجيل الثاني المولود بعد الاستقلال. وبالتالي، يكون المعنى، هنا، كيف يمكن فهم مطالب هؤلاء الشّباب الذين أبهروا الجميع، في الداخل والخارج، بمطالبهم، تنظيمهم، حضاريتهم وسلميتهم، من دون أن يكون قد برز، منهم أو ممّن يثقون فيهم، بعد لفظهم السلطة والمعارضة أو الطبقة السياسية، معا، وجوه تكون في طاولة المفاوضات لتسطير خريطة طريق للمستقبل السياسي للبلاد؟
أمّا المعنى الأخير لعبارة "الحالة استثنائية" فله صلةٌ وثيقةٌ بإيحاء النظام بقدرته على استدعاء سيناريوهات التسيير السياسي، بقيادته المرحلة المقبلة، من ناحية، أو التسيير غير الناعم، أيّا كان شكله، في المرحلة المقبلة، للحراك، من ناحية ثانية، دفعا للمتظاهرين نحو إبراز مضمون تسوية تقبل بالحد الأدنى المقترح، وهو الترافق في تغيير النّظام، وليس تغيير النظام بعيدا عن النّظام وآلياته ونخبه.
نصل إلى الوقفة التي يمكن تسميتها ورقة عمل لما سيأتي من أيام، في إطار هذا الحراك التغييري، مع الاعتراف بأنّ ما عرضته رسالة الرئاسة لا يتضمن روح المطالبات التي صدحت بها حناجر المتظاهرين، من خلال رمزية سحب الترشح لعهدة خامسة، وهي تغيير النظام شكلا ومضمونا، وإتاحة الفرصة لتمرير المشعل لهذا الشباب، الممثل للثورة الرقمية ولعالم جديد، عالم تتحكّم فيه التطبيقات، السرعة، الخوارزميات، والذي تلخصه عبارة واحدة "شرعية حمل مشعل الجمهورية الثانية". والحديث هنا عن مشروع عملي بخطوات عملية، لأن النظام مرتبك وقلق، ودليل ذلك أنه طرح ورقة مفاوضات، بعد ضغط لم يتجاوز، في مدته، 17 يوما. وقد برزت، منذ اللحظة الأولى التي أعقبت قرارات الرئاسة، ردود أفعال تنم عن تلك الخطوات العملية، من خلال قراءة سريعة لمواقع التواصل الاجتماعي، وتعليقات المحللين، السياسيين منهم والقانونيين، خصوصا.
تتلخّص تلك الردود في أن العرض المقدّم لا يكفي، ويجب أن يحلّ محلّه تعهّد بتغيير حقيقي، يتم التفاوض بشأنه، بين النظام، من جهة، والمعارضة والمتظاهرين، من جهة ثانية، مع جهةٍ ضامنةٍ تتكون من "لجنة عقلاء"، تضم شخصيات وطنية ذات صيت وباع، ولديها قابلية 
ومصداقية لدى الجهتين المذكورتين، المقاربة التفاوضية برمتها، خصوصا تنفيذ مخارجها. كما ذهبت التعليقات الأولى إلى اقتراحاتٍ بشأن الأولويات، وهي، على الترتيب، إلغاء التمديد للعهدة الرابعة، بإبطال الانتخابات الرئاسية، وتحويل ذلك إلى إجرائية تغطيها المادة 102 من الدستور، أي إعلان حالة الشغور. وبالتالي، إعمال الإجراءات المنصوص عليها، وهي تولي رئيس مجلس الأمة لرئاسة الدولة، وتنظيم انتخابات رئاسية في حدود ثلاثة أشهر، مع دعوة الندوة الوطنية إلى الانعقاد، واتخاذ مخارجها مقاربة لتجديد النخب، وبناء المؤسسات، والإطلاق الرسمي لميلاد الجمهورية الثانية.
أما الندوة الموعودة فقد اقترح بعضهم تجزئتها إلى ثلاث ندوات فرعية، تتولى الأولى منها إفراز من يشارك من رموز الحراك، فيما تتولى الثانية والثالثة اختيار من يشارك من الطبقة السياسية، والشخصيات الوطنية، وشخصيات ممثلة للنظام، ممن لا يكونون قد انخرطوا في الموالاة المستفزة، من قبل، وما أكثرهم في مؤسسات الدولة المختلفة. يتبع ذلك وضع جدول أعمال وتشخيص حالة السياسة العامة، ووضع خريطة طريق لجزائر 2030، المدى القصير، مع تضمينها استشراف مستقبل البلاد، على جميع النواحي، إلى حدود 2050، على أقصى تقدير.
هذه جملة الوقفات التي ستملأ، حقا، نصف الكأس الفارغة، والتي قال كثيرون ممن هم متفائلون إن ثمّة نصف كأس أخرى ممتلئة، تتضمن وجود دولةٍ، يجب الحفاظ عليها وبناؤها في إطار من التلاحم والانسجام المجتمعي. إنها رهانات شبابٍ يريد لمطامحه أن تتحقق، ولآماله أن تتجسّد، بعد قيام جيل الثورة بعمله كاملا، في تحرير البلاد، وفضل جيل الاستقلال على الوصول إلى التغيير.
إنها وقفات الأمل، ووقفات المستقبل لشباب طالما تمنّى نيل آماله، وإن غدا لناظره لقريب.