واضطرت السلطة لإلغاء الانتخابات الرئاسية للمرة الثانية على التوالي، بعد أشهر من إرجائها للاستحقاق الذي كان مقرراً في 18 إبريل/ نيسان الماضي.
ورفض الحراك الشعبي وقوى المعارضة تنظيم الانتخابات المقبلة تحت وصاية حكومة نور الدين بدوي، وقبل توفّر مجموعة شروط سياسية وإجرائية، تخصّ تشكيل حكومة مستقلة تقودها شخصية توافقية، وإنشاء هيئة مستقلة عليا تتولى تنظيم الانتخابات بدلاً من وزارة الداخلية.
وإزاء هذه التطورات، تتدارس الرئاسة الجزائرية مع الجيش بمخارج دستورية وسياسية للمأزق والوضع الذي انتهت إليه البلاد، بعد إلغاء الانتخابات وبوادر فراغ دستوري يبدأ في التاسع من يوليو المقبل.
ويبحث الجيش والسلطة عن مهلة إضافية لتحديد موعد ثالث للانتخابات بعد هذا التاريخ. ويستند هذا السيناريو إلى تفسيرات يتوقّع أن يصدرها المجلس الدستوري خلال الفترة المقبلة، تخصّ تبرير تمديد ولاية بن صالح لمدة 90 يوماً إضافية، لتنتهي بتنظيم انتخابات رئاسية، على خلفية ما يعتبره الفقيه في القانون الدستوري، علاوة العايب، "الغاية الدستورية"، وتعني أنّ الدستور كلف بن صالح بتولي صلاحيات رئيس الدولة بعد إقرار شغور منصب رئيس الجمهورية، وأوكل إليه تسليم الولاية الرئاسية إلى رئيس جمهورية منتخب، وهو ما يسمح له بالبقاء في منصبه إلى حين تنظيم الانتخابات.
وإذا كان هذا السيناريو الأقرب إلى التطبيق، بسبب حرص تبديه المؤسسة العسكرية في عدم الخروج عن الدستور، فإنّ متابعين يطرحون أيضاً إمكانية أن يتم اللجوء إلى تطبيق المادة 107، والتي تنصّ على الحالة الاستثنائية بسبب الخطر الذي يهدد المؤسسات الدستورية. ويوضح القانوني سعيد يحياوي، في تقدير موقف نشره أول من أمس الأحد، أنّ "الخطر هنا يمكن أن يفهم منه الفراغ على مستوى مؤسسة الرئاسة، وعدم التمكّن من إجراء الانتخابات"، مضيفاً أنه "يمكن من خلال هذه المادة تأجيل الانتخابات وتمديد فترة الرئاسة الانتقالية إلى حين انتخاب رئيس جديد، وتعديل القانون العضوي للانتخابات، وإنشاء سلطة عمومية (الهيئة العليا لمراقبة الانتخابات) تشرف على الاستحقاق الانتخابي".
لكنّ الحراك الشعبي ينظر بعين الريبة إلى المسارات التي يقودها الجيش من خلف الستار السياسي، خصوصاً إصراره على تطبيق مخرجات دستورية كان واضحاً منذ البداية أنها لن تساهم في حلّ الأزمة. ويعتقد الناشط السياسي رابح لونيسي، أنّ "هناك محاولة لتحقيق ما أراده (الرئيس المتنحي) عبد العزيز بوتفليقة بالتمديد له سنة، لكن من دون بوتفليقة المريض، بل ببن صالح الضعيف جداً، وهو ما يدلّ على أنّ القوى غير الدستورية نفسها التي كانت تختفي وراء بوتفليقة، هي نفسها تقريباً التي تتخفى وراء بن صالح اليوم"، معتبراً أنّ هذا التمديد يستهدف "ربح الوقت لإعادة تنظيم السلطة بيتها، وإنهاك الحراك واستنزافه حتى يتفتت، ويبقى النظام كما كان كأننا لم نفعل شيئاً".
ويحمّل لونيسي في حديث مع "العربي الجديد"، الجيش والسلطة مسؤولية المآلات التي انتهت إليها البلاد، "بسبب الإصرار على الحلّ الدستوري، على الرغم من أنه لا يساهم في توفير حلّ للمأزق السياسي"، مضيفاً أنه "يتعيّن على السلطة والمؤسسة العسكرية الإنصات لصوت العقلاء وعدم تضييع وقت أكثر على الجزائريين". ويرى أنه "لو طبقنا المادتين السابعة والثامنة، اللتين تنصان على العودة إلى السيادة الشعبية، لكانت الجزائر قد خرجت اليوم من المأزق"، مشيراً إلى أنّ "إصرار وتعنّت دعاة ما يعتبرونه أنه حلّ دستوري، يضيع علينا فرصة الانتقال إلى نظام جديد يجد فيه كل الجزائريين أنفسهم".
وفي تقدير القوى السياسية المعارضة، فإنّ سقوط رهان المؤسسة العسكرية والسلطة على الانتخابات، يفرض على السلطة الفعلية (الجيش) الإسراع في وضع خطة طوارئ سياسية، وفتح حوار جدي بمرافقة من المؤسسة العسكرية، يؤدي إلى استقالة حكومة نور الدين بدوي، وتشكيل هيئة عليا للانتخابات وفق تعديل لقانون الانتخابات، وتحديد موعد جديد للرئاسيات.
وفي السياق، أعلن حزب "طلائع الحريات" الذي يقوده رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، في بيان نشره الأحد، أنّ "الحوار أصبح أمراً مستعجلاً جداً، لتفادي العواقب الوخيمة التي تنجم عن حالة الفراغ الدستوري، واستمرار الانسداد السياسي الذي آلت إليه الأوضاع". وأشار إلى أنّ "هذا الحوار يجب أن يشمل ممثلين عن الثورة السلمية الشعبية والمجتمع المدني والأحزاب والشخصيات الوطنية والنقابات التي برزت خلال الكفاح ضدّ النظام وساندت الثورة السلمية الشعبية منذ بدايتها، وأن يهدف إلى وضع خطة شاملة لمعالجة الأزمة وضمان استمرارية مؤسساتية لبلدنا إلى غاية انتخاب رئيس للجمهورية".
لكن يوجد إصرار من الحراك الشعبي والقوى السياسية على رحيل جزء من رموز نظام بوتفليقة، خصوصاً رئيس الوزراء نور الدين بدوي، بسبب الصلة المباشرة للحكومة بتنظيم الانتخابات، وعلى اعتبار أن رموز النظام التي لا تزال على رأس المؤسسات الأساسية للدولة، لا يمكن أن تكون المؤهلة للمشاركة في أي حوار، وبالتالي فإنّ الدعوة لأي تشاور جدي ومسؤول لا يمكن أن تأتي سوى من قِبل سلطة معنوية وسياسية غير مطعون في مصداقيتها وغير مرفوضة شعبياً.
وفي هذا الإطار، يؤكّد القيادي في حركة "مجتمع السلم"، عبد المجيد مناصرة، في تغريدة له على "تويتر"، أنّ تجاوز حالة الفراغ الدستوري التي ستعيشها البلاد بدءاً من التاسع من يوليو المقبل، تفرض "فتح حوار سياسي حول تنظيم انتخابات جديدة، واستقالة بعض الأسماء المغضوب عليها شعبياً".
ويؤشّر كلام مناصرة بشأن استقالة "بعض"، وليس كل رموز نظام بوتفليقة، إلى تحوّل طفيف في موقف المعارضة، الذي قد ينسحب على الحراك الشعبي لاحقاً، بشأن بدء مرحلة التنازلات الصعبة. ويتعيّن على المعارضة والحراك القبول ببقاء بن صالح لفترة أخرى، مع تمسّك الجيش ببقائه في منصبه تلافياً للخروج عن الدستور، والتخوّف من عدم توفر شخصية توافقية تدير المرحلة، إضافة إلى عدم وجود آلية يمكن من خلالها تعيين شخصية توافقية لرئاسة الدولة. يضاف إلى ذلك أنّ بقاء بن صالح في الرئاسة لفترة إضافية، يتيح للجيش الاستمرار في الإمساك بالسلطة، ومراقبة تطورات الوضع عن قرب.
ومقابل تنازلات الحراك والمعارضة السياسية، قد يقدّم الجيش الممسك بالسلطة الفعلية، تنازلات جديدة تخصّ القبول بتنحي حكومة بدوي، واستبدالها بحكومة مستقلة تتولى الإشراف على الحوار السياسي المؤدي إلى تعديل قانون الانتخابات، وتحضير الانتخابات الرئاسية. ويرجح مراقبون أن يتمّ التوصّل إلى توافقات كهذه عبر حوارات غير معلنة تتم بين الجيش وقوى وشخصيات سياسية بارزة ومؤثرة في المشهد السياسي والشعبي.
ومن شأن هذه التنازلات المتبادلة أن تفكّ عقدة الصدام السياسي بين الجيش والحراك الشعبي الذي بدأ يرفع بشكل لافت في التظاهرات الأخيرة شعارات ولافتات ضدّ الجيش وقائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح، ورفض أي حكم عسكري أو إعادة التجربة المصرية للرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في الجزائر.
وعلى الرغم من عدم وجود أي مؤشرات على إمكانية حدوث صدام في الشارع بين الجيش والحراك، إلا أنّ قيادة الجيش تحاول البقاء في قلب السلطة لمراقبة تطورات المرحلة. ويعتقد الناشط البارز في الحراك الشعبي عبد الوكيل بلام، أنّ "الحراك حريص على عدم التصادم مع الجيش وعلى احترام المؤسسة العسكرية، لكنه لن يقبل بأي محاولة لفرض خيارات غير شعبية عليه". ولفت بلام، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "قيادة الجيش مترددة كثيراً إزاء تقديم التنازلات المرحلية التي يطالب بها الشعب، وضيّعت علينا وقتاً كان يمكن أن نختصر فيه الأزمة". ويرى بلام أنه "ستكون الأيام المقبلة حاسمة بعد سقوط الانتخابات، وستنكشف كل الأوراق، خصوصاً بالنسبة للنوايا الحقيقية للجيش، كما ستكون مصيرية بالنسبة للحراك الشعبي".