وكانت الاحتجاجات في بلدة عين الماء قد بدأت منذ أيام على خلفية غضب الأهالي من قرار السلطات الجزائرية تحويل مشروع محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية من بلدتهم إلى منطقة أخرى، فيما الحلول الأمنية التي بادرت إليها السلطات لم تجد نفعاً في وقف هذه الاحتجاجات، وخصوصاً أنّ هذا المشروع كان ليوفّر 500 وظيفة لشباب البلدة.
"خريف الغضب" الذي بدأ في هذه البلدة الصغيرة تمدّد إلى مناطق أخرى بمطالبات اجتماعية تتقارب في مضمونها. وشهدت مدينة تيقزيرت في ولاية تيزي وزو، شرقي العاصمة الجزائرية، مسيرة احتجاجية ضد غلاء الأسعار، شارك فيها المئات من المواطنين. ونفّذ سكان مدينة عنابة، شرقي الجزائر، اعتصاماً ضد تدابير التقشف التي تضمّنها قانون الموازنة. من جهتها، شهدت منطقة الطارف، شمال شرق البلاد، احتجاجات بسبب ندرة الغاز الطبيعي في فصل الشتاء، وموجة البرد القارس. كما شهدت منطقة برحال في ولاية عنابة، أعمال عنف احتجاجاً على انقطاع المياه في المدينة.
ويطرح تزامن هذه الاحتجاجات مع بعضها البعض مخاوف جديّة لدى السلطة التي تعيش في تخبط وارتباك سياسي إزاء فشلها في معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. يُضاف إلى ذلك الإخفاق في استغلال الثروة المالية التي توفّرت للجزائر في العقد الماضي، والتي بلغت 199 مليار دولار كاحتياطي صرف، للخروج من التبعية للريع النفطي. كما بدأت تتسرّب مخاوف لدى الطبقة السياسية التي باتت تشكك في وجود إدارة سياسية جادة بشؤون الدولة نتيجة التناقضات الراهنة التي تتسم بها قرارات الحكومة إزاء معالجة تداعيات الأزمة النفطية التي بدأت بوادرها قبل أكثر من سنة. لكن الهواجس الكبرى يطرحها قطاع واسع من الجزائريين حول المستقبل الغامض للبلاد الذي يخشى من أن يقف على عتبة إفلاس مالي واقتصادي وسياسي.
وفي السياق، لم يطغَ مشروع تعديل الدستور الذي يطرحه الرئيس الجزائري، عبدالعزيز بوتفليقة، على المشهد السياسي نتيجة تصاعد الغضب الاجتماعي. ولم تهدّئ التعديلات الدستورية من حالة الاحتقان الشعبي المتزايد منذ فترة احتجاجاً على الأوضاع الاجتماعية في البلاد.
ففي العام 2015، بلغ عدد الاحتجاجات التي شهدتها الجزائر 3300 حركة، بمعدل تسع حركات احتجاجية في اليوم، متباينة في مطالبها ومتفاوتة في حجمها وطبيعتها المهنية والاجتماعية.
بدأت الاحتجاجات العنيفة في ديسمبر/ كانون الأول 2014، إذ شهدت مدينة تقرت، جنوبي الجزائر، مواجهات عنيفة بين المحتجين وقوات الأمن، أدت إلى مقتل شخصَين و20 جريحاً على خلفية مطالب بعض السكان تتعلق بالعمل والسكن والتزود بالمياه الصالحة للشرب. وتزامنت تلك الاحتجاجات مع سلسلة غيرها للشباب العاطل من العمل شهدتها مدن الجنوب في منطقة ورقلة النفطية، وبرج باجي مختار في ولاية اليزي، أقصى الجنوب.
وفي يناير/ كانون الثاني 2015، شهدت الجزائر موجة احتجاجات عنيفة في منطقة عين صالح، ضد مشروع حكومي لاستغلال الغاز الصخري. وظلّت هذه الاحتجاجات متواصلة حتى يونيو/ حزيران من العام نفسه، عندما قررت الحكومة الوقف المؤقت للحفريات الاستكشافية. واستدعى اتساع نطاق الاحتجاجات حينها تدخل الرئيس بوتفليقة الذي دعا السكان إلى الهدوء. وفي يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 2015، اجتاحت موجة من الاحتجاجات مناطق متفرقة من الجزائر على خلفية مشكلة السكن.
اقرأ أيضاً: سلسلة احتجاجات في الجزائر بسبب الظروف المعيشية
ولم تغب أحزاب سياسية عن هذه التحركات. في سبتمبر/ أيلول 2015، نظّم حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" مسيرة ضخمة في مدينة تيزي وزو، تنديداً بسياسات التقشف التي أعلنتها الحكومة. وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، خرج الآلاف من عمال المدينة الصناعية الرويبة في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية، في تظاهرة احتجاجاً على تأخر رواتبهم. أما في 14 يناير/ كانون الثاني الحالي، فهدّدت نقابات الصحة بالدخول في إضرابات مفتوحة في حال أصرّت الحكومة على تجميد الزيادات في الأجور.
تظهر خريطة هذه الاحتجاجات المتقاربة زمنياً تقاطعاً في المطلب الاجتماعي المرتبط بمشاكل مزمنة في الجزائر، أخفقت السلطة في حلحلتها على الرغم من توفّر كل ظروف الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومنها: السكن، والعمل، وتحسين البنية التحتية، والطرق، والتعليم، والصحة.
وفي السياق، يرى الناشط الجزائري في لجنة "حماية الثروة ومكافحة الفساد"، رشيد عوين، أنّ السلطة ظلّت في سنوات البحبوحة المالية تضخّ الأموال لشراء السلم الاجتماعي من دون دراسة في ظلّ انعدام التوزيع العادل لعائدات الثروات النفطية. ولفت عوين إلى أنه "بعد الأزمة النفطية توجّهت الحكومة إلى التقشف وجمّدت عدداً من المشاريع التنموية والتي لها انعكاسات كثيرة على سوق العمل وتعطيل الحركة التجارية".
ويرجّح عوين "تمدّد الحراك الاحتجاجي باعتبار أنّ قانون الموازنة للعام 2016 يمسّ في أغلب مواده جيب المواطن البسيط، فضلاً عن زيادة في العديد من أسعار الحاجيات اليومية". ويشير الناشط الجزائري إلى أنّ "كل هذه الأمور، تشكّل هاجساً بالنسبة للجزائريين الذين يزداد قلقهم وتشاؤمهم في ظلّ غلاء المعيشة وتردي الأوضاع من الناحية التنموية، والبطالة، ورداءة الخدمة العمومية". ويلفت إلى أنّ "تشبّث السلطة بالحلّ الأمني مع كل الحركات الاحتجاجية سيؤدي حتماً إلى انفجار اجتماعي يصعب التحكّم به".
وتنظر أحزاب السلطة الجزائرية إلى موجة الاحتجاجات الأخيرة بعين الشك. ويرى حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" الذي يقوده رئيس ديوان الرئاسة، أحمد أويحيى، أنّ وراء هذا النوع من الاحتجاجات، خلفيات ومحرّك سياسي يسعى إلى إفشال مسعى تعديل الدستور الذي يعتزم بوتفليقة عرضه الشهر المقبل على البرلمان.
في المقابل، تعتبر أحزاب المعارضة أنّ التبريرات التي تعتمدها أحزاب السلطة تحاول من خلالها التغطية على فشل الأخيرة. وترى المعارضة، مثل حزب "فجر جديد" بقيادة الطاهر بن بعيبش، وحركة "مجتمع السلم"، أكبر الأحزاب الإسلامية، وحركة "النهضة"، أنّ الارتباك الراهن لدى دوائر صنع القرار، لا يصنع حلولاً جدية لمشاكل واقعية زادتها الأزمة النفطية تكشفاً. وتبدو المعارضة أكثر إدراكاً لمؤشرات الانفجار الاجتماعي المحدق بالبلاد، في حال استمرت السلطة في الهروب، وأصرّت على معالجة ظرفية وقرارات لا تمسك بخيط الأزمة الحقيقية.
اقرأ أيضاً: الجزائر... مشروع دستور لما بعد بوتفليقة ترفضه المعارضة